في أيامها الأولى داخل مستشفى قها للعزل في القليوبية، أخذت الممرضة مي منسي تتعرف على العالم الجديد، تُنقب عن شيء ما يمنحها طاقة لليوم التالي في العمل، 12 ساعة تجوب على غرف المصابين، تتفقد من في العناية المُركزة، ضغط نفسي لم تمر به الشابة الثلاثينية من قبل، حتى تلاقت مع الأطفال المصابين بفيروس كورونا المستجد، دفقة من المشاعر المختلطة انتابتها، تجسدت صور صغيريها أمامها، تذكرت حرمانهم منها لأول مرة، لذا قررت ألا تبرح الغرف إلا وقد امتلأت سعادة وضحك يُنسي الصغار ألم المرض.
خلطة سحرية أعدتها الممرضة مي من أجل أطفال المستشفى، تدلف الغرف لإعطائهم جُرعات العلاج لكن يديها الأخرى تقبض على الحلوى والألعاب، صارت علامة مميزة للصغار، يعرفونها من دقّات يديها على الباب قبل أن يُفتح "بطبّل عليه بإيقاع معين وأقولهم أصحوا أنا جيييت"، تُصبح الإشارة ببدء لحظات البهجة.
كما في أسطورة "بابا نويل" الذي يمنح الصغار ألعابًا ويحقق أحلامهم ليلة رأس السنة، صارت "ميس مي"، تُهدهد الأطفال فتمسح عنهم الحُزن والوجع، ذات يوم وجدت الطفلة مريم، ابنة الخمس سنوات، تبكي بحُرقة داخل الغرفة، فيما تجلس عمتها في السرير المجاور لها "لكن بيتعاملوا مع الموضوع إنه زّن عيال، خصوصًا الكبار بيبقوا تعبانين برضو"، بتلقائية غنّت الممرضة الشابة "سُكر حلوة الدنيا سُكر"، خفت صراخ الطفلة قليلًا ثم صمتت إلا أن خرجت منها الضحكات بأصوات أعلى من بكائها "بقيت أرقص معاها وأنا بغني، كانت فرحانة أوي لدرجة إننا نسينا المرض وكورونا كأننا في عالم تاني".
بتلقائية صُوّر مقطع فيديو وهي تغني برفقة الصغيرة، لم تبالِ بالأمر كثيرًا غير أنها احتفظت به كتذكار لتلك اللحظة "بعدها لقيت إدارة المستشفى بتقولي عايزينك عشان الفيديو"، ارتبكت الممرضة الشابة،ل م تفهم عن أي فيديو يتحدثون حتى وضحوا لها "افتكرت إني عملت حاجة غلط أو برّة البروتوكول، لكن قالوا لي لا عشان نكافئك" اكتشفت بعدها مي أن المقطع انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي.
سعادة بالغة حّلت على الممرضة الشابة خاصة حينما هاتفها والدها ليخبرها بكلمات يملؤها الفخر "طوّلتي رقبتي"، فيما امتنت لكل التعليقات الداعمة حتى من غرباء لم تجمعها بينهم حديث من قبل على مواقع التواصل الاجتماعي، تمر بُطرقات المستشفى فتجد الطاقم الطبي يشيد بما فعلته لكنها تعلم أنها نالت فرحة مثل الطفلة "الغُنا واللعب مع الأطفال بيهوّن عليا، لأني لأول مرة مشوفش عيالي الاثنين لمدة 60 يوم بسبب الشغل، أنا اللي كنت محتاجة ضحكة الأطفال عشان تصبرني على فراق ولادي".
أفضل وقت تمضيه الممرضة الشابة في غُرف المصابين، تحاول تكثيف من جُرعات السعادة خلال تواجدها لأن لا ينبغي المكوث كثيرًا بحكم طبيعة الفيروس المُعدي، تمنحهم كلمات الدعم "متخافوش أنا جمبكم، أنا هنا ماما أو أختك" خصوصًا أن هناك أطفالًا يأتون وحيدون بعيد عن أسرهم "ببقى عايزاهم يقضوا حياة طبيعية حتى لو في قلب مكان محاوط برعب وخوف".
لا تنسى حين الطفل سيف صاحب الثلاثة أعوام، في أول استقبال له بمستشفى العزل دخل في نوبة بكاء متواصلة، ارتجف الصغير حينما رأى الطاقم الطبي بملابس العزل "شكلنا بيخض أطفال لأنه مش باين مننا ملامح، كأننا كائنات فضائية"، ظل الصغير على هذا الحال طيلة ثلاثة أيام "كل ما حد يقربله يدخل في عياط هستيري وبياكل ويشرب بالعافية" حتى مارس التمريض سحرهم المعتاد "جيبناله لعب وشوكلاتة" تلاشت الرهبة واستأنس وجودهم حتى تعافى.
أطفال بأعمار وشخصيات مختلفة مرت على الممرضة طيلة أربعة أشهر، من عُمر شهرين إلى 18 عامًا تعاملت؛تتذكرهم جميًعا فيما لم ينقطع حبال الوصال معهم حتى مع تعافيهم وخروجهم من المستشفى مثل جنى صاحبة التسعة أعوام، التي تعتبرها "بطلة كنت بحس إن عندها 20 سنة من كتر شخصيتها المميزة".
مغامرة يومية تخوضها مع الصغيرة حتى تتلقى الدواء "مكنتش بترضى تاخده غير مني، حتى لو مش الشيفت بتاعي كنت ألبس وأطلع لها أو تصحيني من النوم بالتليفون عشان أكلمها.. تقولي ميس مي هو أنا هخف؟ أرد عليها هتخفي يا قلب ميس مي". تواجدت صاحبة التسعة أعوام برفقة والدتها في نفس الغرفة، تعافت قبل الأم وفي اللحظة التي ظهرت نتيجتها السلبية واستعد التمريض لنقلها مكان آخر "جريت مننا حضنت مامتها، قالت لها مش هسيبك إلا لما نخرج سوا حتى لو هاخد المرض تاني"، حلّت الدهشة على طاقم التمريض، هرولوا تجاه الفتاة لالتقاطها سريعًا "مامتها الحمد لله كانت لابسة الماسك، كنا خايفين عليها تلقط العدوى تاني بس الحمد لله محصلش، بعد فترة خرجت هي ومامتها سوا، كانت من لحظاتنا السعيدة".
لحظات مرّت بها لأول مرة الممرضة الشابة في تجربتها مع مستشفى العزل "لما استقبلنا سيف، وهو ولد عنده 10 سنين ومُصاب بالتوحد". كان برفقة والدته لكن حالته النفسية لم تكن مستقرة "كان عصبي وبيعيط ويصرخ ويخبط أوقات"، حاولت مي جمع شتات نفسها وفكرت "إزاي هلعب معاه وأطمنه وأنا باللبس ده؟"، فكرت أن تكسب وِده بلعبة هدية "عرفت إنه نفسه في طيارة لعبة، كلمت أختي تجيبهالي".
يوم منحه اللعبة كان كليلة العيد "يومها كان متعصب جدًا ورافض ياخد العلاج، أول ما دخلت له وشاف الطيارة هدي وبدأ يقولي يالا هاخد الدوا وقيسي لي الضغط.كان يوم عالمي بالنسبة لي"، باهتمام بالغ تابعت مي حالة الصغير، شاركت في وقف إجراءات نقله إلى مدينة جامعية للعزل "زي بعض المرضى، حاولنا مع الإدارة لأنه لو راح هناك مش هيستحمل إن حواليه ناس كتير، والحمد لله الإدارة استجابت وفضل معانا"، لكنه قضى أطول مُدة في المستشفى مقارنة بباقي المصابين "للأسف كل مرة نعمل الاختبار يبقى سلبي لأن ياحبيبي مناعته ضعيفة"، وفي مايو المنصرف خرج برفقة والدته لاستكمال بروتوكول العلاج منزليًا "بتابع معاهم لحد دلوقتي وبتمنى إن الناس تدعيله يتعافى".
كانت كل تلك اللحظات مدد بالنسبة للممرضة، خاصة حينما اكتشفت في مايو الماضي إصابتها بفيروس كورونا المستجد وتم عزلها في المستشفى لتلقي العلاج طيلة 14 يومًا ثم عادت بعد التعافي إلى منزلها لأخذ قسطًا من الراحة "صحابي وقفوا جمبي ودعموني نفسيًا وده اللي كان سبب في أني أعدي المحنة دي، وافتكرت كل المرضى وإزاي لازم أركز أكتر على نفسيتهم".
منحتها التجربة أفكارًا لمراعاة الحالة النفسية للمرضى، تذكر أبرزها "حاجة خاصة بالبروتوكول مش هقدر أغيرها، وهي قفلة الباب عليا وأنا جوة بالمفتاح، إحساس مُقبض إني محبوسة واللي برة خايفين مني، هحاول لما أرجع إن صوت تَكة المفتاح ميتسمعش وأعمله براحة عشان ميحسش بيه المرضى"، فيما تُحضر بعض الجمل لتقولها للمصابين مع خروجها من الغرفة "إنهم ميزعلوش إننا بنسيبهم لوحدهم واشرح لهم ده ليه، خصوصًا إني حسيت بالموضوع أول ما التمريض كان يسيبني لوحدي الدنيا تسوّد مرة واحدة".
تستعد مي منسي للقاء أهل المستشفى يوم الجمعة القادمة، يملأها الحماس لعودتها مُجددًا بعد فترة غياب عنهم، تتحضر للتعرف على أطفال جُدد يصيروا رفاقها فيما بعد، فيما تشتري حاليًا ألعاب وحلوى "عشان مروحش بإيدي فاضية"، تستعيد بعض أغاني زمان مثل "كان في فراشة صغيرة، وكوكو واوا" لتغنيها للأطفال، لأنها تعرف أن في ذلك دواء الروح "مهم زي أقراص العلاج".