أيقظت كورونا روح الرؤية التي يتوجب ان تكون متواضعة جدا لدى الأنسان عن نفسه وعن الطبيعة والله والكون
حوار سليمان شفيق
ارتبط نشاط المفكر اللبناني د. سهيل فرح منذ دراسته في جامعة موسكو في مطلع السبعينيات بموضوع حوار الحضارات وقضايا العولمة والمسألة الثقافية في الفكر الفلسفي العربي المعاصر . ولد د.سهيل فرح عام 1951 . وفي عام 1979 حصل على الماجستير من جامعة موسكو في فلسفة الحضارة. ثم ناقش رسالة دكتوراه في الفلسفة في الجامعة نفسها في عام 1984 . كما حصل على درجة دكتوراه علوم من جامعة نيجني –نوفغورود في عام 2001. عضو مجلس رئاسة منتدى موسكو الثقافي. ومنح في عام 2000 ميدالية بوشكين الدولية وفي عام 2004 منح وسام الصداقة بين الشعوب.
البروفيسور، سهيل فرح، هو عضو في أكاديمية العلوم الروسية، ودكتور في فلسفة العلوم والحضارات والأديان في الجامعة اللبنانية وجامعة موسكو، وحاصل على جائزة بريماكوف لعام 2018، كما اختير عام 2011 شخصية العام في ميدان العلوم في روسيا. وفي نفس العام، قلّده الرئيس الروسي آنذاك، دميتري ميدفيديف، وسام بوشكين للصداقة بين الشعوب أصدر 21 كتابا ترجم منها الى العربية والروسية والانجليزية من أهم كتبه "الحضارة الروسية المعنى والمصير" الذي يحاكي الحضارة الروسية بكل ما تحمله من تاريخ عريق ومن جغرافيا واسعة من منطلق ان تاريخ وحضارة روسيا يهم أبناء الإثنيات والشعوب التي تقطن فيها مثلما يهم مصيرها العالم بأسره لأن غاباتها التي تعد احدى رئات العالم واحتياطها من المياه العذبة وعلومها وفنها وثقافتها وروحانيتها هي علامة من العلامات المضيئة في الحضارة الكونية. ويتحدث الكتاب عن المؤثرات السلبية
للعولمة وترابطها مع الحضارات الأخرى والسيناريوتات المستقبلية التي تنتظر حضارات مشابهة
جهات علمية وعالمية كثيرة رشحته لجائزة نوبل للسلام ، كان لنا امكانية الحوار معة لمعرفة الكثير من الافكار والرؤئ لاحد ابرز المفكرين العظام .
ازمة الحضارة الانسانية:
يقول الدكتور سهيل بأن المرحلة التي تعيشها الحضارة الإنسانية المعاصرة تمر بمجموعة من الأزمات لعل أهمها الأزمة الإيكولوجية أي مشكلة نقص الماء، الهواء، البيئة عموما، فعندما بدأ العقل العلموي يقتحم عالم الطبيعة غاب التناغم بين الإنسان وأمه الطبيعة"."
ويضيف أشكر حضرتكم على كل سؤال من الأسئلة الكبرى التي تطرح عليها، ولا أخفي سرا بأن البعض منها يصعب علي الجواب عليه وتحديدا عندما يتعلق الأمر بمسألة لها علاقة مباشرة بنظرتي أو تقييمي لنفسي، و ذلك تحاشيا لعدم الوقوع في التقييم الذاتوي الذي ليس من طبيعتي، أنما سأحاول قدر الإمكان أن أتقيد بالرؤية الموضوعية للمسائل التي تتوخى دائما التماهي أو على الأقل الاقتراب من حقيقة الوقائع والمعطيات والتوقعات. باختصار شديد ولدت في عائلة وبيئة مشرقية موزعة أماكن عيش أفرادها في بلاد عديدة من سكان المعمورة. حتى الآن يخيم الغموض على الجذور التاريخية العميقة لأصولها . ما هو معروف ضمن الفترة التي تمتد الى ما يقارب القرنين من الزمن بأنها عائلة متواجدة في المشرق ومنتشرة على بلاد ثلاث لبنان وسوريا وفلسطين. أفرادها عانوا منذ اوائل القرن العشرين وحتى تاريخه من موجات السفر والهجرة الى الشق اللأتيني و الشمالي من القارة الأميركية. وتوزعت العائلة المصغرة الحالية بين البرازيل والمكسيك ... والآن روسيا وكازاخستان وأستراليا وفرنسا وسويسرا. وهي بطبيعتها منفتحة على سائر الشعوب والثقافات والأديان. ومن هذه البيئة المتنوعة الثقافات واللغات و الأديان والمهن والمعارف كان منشأي في طفولتي ويفاعتي وشبابي و الأن كهولتي، منها تعلمت ثقافة النظرة المتنوعة للإنسان الواحد . منها أردت أن أتحرر من رؤيتها احيانا المنمطة عن نفسها و عن الآخر . ومنها علمتني التجارب أن أتخلص من كل عصبوياتها ورؤية البعض منها الضيقة للهويات الدينية وغير الدينية .النقلة النوعية الثقافية في حياتي كانت بعد هجرتي وأنا في مقتبل العمر من الريف الة العاصمة بيروت التي شكلت في فترة من الزمن مختبرا ثقافيا غنيا للشرق و بها ومن خلالها حدث الإنفتاح و الانبهار الواسع بالغرب الذي لم يصل الى الدراسة المتأنية لأعماق فكره وثقافته.
إلا أن الفضل الأساسي لانطلاق و لشروع كل أبواب فكري و فلسفتي للعالمية كان تحديدا من النافذة الثقافية والعلمية الروسية. في مركزها التعليمي الأساسي جامعة موسكو الحكومية دافعت عن إطروحات الماجستر والدكتوراة الأولى و الدكتورسكايا الأخيرة . الأولى كانت في الصحافة التلفزيونية والثانية كانت في فلسفة التاريخ والثالثة كانت في فلسفة العلوم والحضارات. وبين هذه الأطروحة وتلك كان تأتي أو تصحب معها بعض الأبحاث و الكتب بين التأليف والإعداد وأحيانا الترجمة. إلا إن هناك حدثا علميا حط علي من أعرق الصروع العلمية والتعليمية، لم اتوقعه لا بل حتى لم أكن أحلم فيه هو انتخابي أو اختياري عضوا فاعلا في أكاديمية التعليم الروسية في 25 أبريل من عام 2001. في هذه الأكاديمية و لعل الأهم في أكاديميات أخرى روسية التي تم اختياري فيها عضوا روسيا ، كان لي بعض المساهمات النشيطة في تدشين حقول معرفية . نظر لها البعض من الفعاليات العلمية الروسية بأنها جديدة الطرح معرفيا ومنهجيا وبالذات الحقل المتعلق بالنظرة التكاملية العلمية للحضارات بتاريخها وحاضرها ومستقبلها وموضوعات الحوار والشراكة بين حضارات الشرق والغرب.
للمرة الثالثة يتم ترشح حضرتك لنيل جائزة نوبل «فرع السلام"، ما هي الدوافع والعوامل التي وراء ذلك الترشح ؟
هي فعلا المرة الثالثة ، الأولى كانت في عام 2018 والثانية في 2019 والثالثة في العام الحالي. إلا إن الترشيح لم يكن إفراديا بل كان في المرة الأولى والثانية مع عالم موسوعي كبير من الوزن الرفيع وهو الأكاديمي يوري يكوفتس، وفي هذا العام أضيف لأسمينا اسم زميل لنا وهو عالم كبير أيضا يدعى ألكسندر أغييف. نحن الثلاثة نعمل معا في ورشة علمية واحدة منذ عام 2001 تقريبا. معا أسسنا معهد بيتريم سوروكين، وهو على فكرة، الذي أسس بعد نفيه من الإتحاد السوفياتي قسم علم الاجتماع في جامعة هارفارد الأميركية في الثلاثينيات من القرن الماضي، والذي اصدر مجموعة الديناميكا الثقافية الاجتماعية للحضارات الواسعة الأنتشار عالميا في ميادين العلوم الإنسانية. ومع زميليي يكوفتس وأغييف أصدرنا مجلة "شراكة الحضارات" التي تصدر في أكثر من لغة ، ومعا أيضا قمنا بتأسيس الجامعة المفتوحة لحوار الحضارات التي شرفت برئاستها بدءا من عام 2013 و حتى تاريخه . وقمنا بإصدار ما يناهز السبعين كتابا منها 23 من تأليفي وإعدادي، وكلها تبحث في أبرز القضايا المتعلقة بمسائل النمو الحضاري وأفوله وأزماته والتفتيش عن الخيارات الحضارية البديلة وذلك بالاستناد الى رؤية منهجية ثلاثية الأبعاد مرتكزة على مبادئ أ- الدورة الحضارية ، ب- تشخيص علمي متكامل لأزماتها أثناء أفولها ، ج- مبدأ التنبؤ.
بيد أن نقطة الأوميغا فيها هي دائما التمحور حول ثقافة الحوار والشراكة بين الثقافات والأديان والمعارف، هي التركيز على ضرورة تعميم وتعميق ثقافة السلام و تربية الأجيال على هذه القيم منذ ظهورهم على هذه الدنيا و حتى آخر لحظة من حياتهم. ولم يقتصر النشاط على العمل الأكاديمي البحت، بل رافقه بشكل دائم حضورنا المشارك بنشاط في أبرز المنتديات الروسية و الأوراسية والدولية بينها الم}سسات التعليمية و الثقافية التابعة لهيئة الأمم المتحدة، التي تعنى في تفعيل الحراك الدولي حول ضرورة تقوية عرى التناضح الحضاري بين شعوب الشرق والغرب، وحول ضرورة تربية الحكام والمحكومين على ثقافة الحوار والشراكة لا النزاع و تأجيج كل انواع التعصب و الحروب. كل هذا لفت انظار بعض الفعاليات العلمية و الحكومية و حتى بعض المؤسسات الدولية التي انصب البعض منها على دراسة افكارنا ومتابعة نشاطاتنا. المبادرة في رفع اسمائنا الى أسلو كانت بشكل أساسي من قبل قسم أوروبا الذي يعتبر واحد من أنشط الأقسام في أكاديمية العلوم الروسية .من عقل هذا القسم ومديره البروفيسور ألكسي جروميكو كانت المبادرة لترشيحنا لجائزة نوبل للسلام منذ ثلاث سنوات وبشكل متتال.
إذن ومن المعروف ان البروفيسور جروميكو من أكثر المتحمسين لترشيحك هل تعطي القراء في مصر فكرة عن البروفسير جروميكو والاسباب لذلك الحماس؟
البروفيسور ألكسي أنطوليفتش جروميكو هو واحد من أبرز العلماء في قضايا الجيوبولتيك والعلاقة بين الشرق والغرب و بشكل أخص العلاقة بين روسيا وبريطانيا. فهو ينتمي الى أسرة ديبلوماسية روسية عريقة جدا . جده أندريه جروميكو الوزير الأسطورة في الحقبة السوفياتية الذي أستمر يشغل فيها منصب وزير الخارجية السوفياتي لمدة تجاوزت العقود الثلاث ، فهو صاحب المقولة المشهورة ، التي أعتمد عليها أثناء تحليلي لنقاط الصراع الملتهبة في العالم ، وملخصها "خير العمل عشر سنوات ديبلوماسيا في المفاوضات حول المسائل المتنازع عليها من إصدار القرار بالحرب خلال عشر دقائق" . فألكسي الحفيد الرصين التفكير والسلوك الذي ترعرع في كنف تربية هذه الأسرة الراقية ، كان قد تابع أعمالنا و نشاطاتنا أكثر من عشر سنوات وساهم معنا بشكل ملحوظ في إنحاح عدد من المؤتمرات في روسيا وخارجها. ولعل أهمها المؤتمر الدولي الهام الذي عقد في عز أزمة الثقة التي كانت مستفحلة بين روسيا وإلمانيا في عام 2013 تحت عنوان" روسيا وإلمانيا : الطريق الى الحوار"، عقد في ضواحي مدينة ميونخ في قصر آخر ملوك بافاريا وحضره نخبة من كبار علماء إلمانيا وروسيا بعض البلدان الأوراسية الأخرى . وكان لي مع زميلتي الدكتورة كارولين رايسنبرغ الدور المركزي في المبادرة الى هذا المؤتمر الدولي وتنظيمه. وكان لكل اعضاء المؤتمر بما فيهم البروفيسور ألكسي جروميكو الدور ألأساسي في إنجاحه. كما أن البرفيسور جروميكو يعد القارئ الأكثر تمعنا لأبحاثنا. الأمر الذي جعله هو وبالتالي لاحقا مع عدد آخر من العلماء العاملين في جامعات موسكو وقازان وحتى في الغرب من فرنسا وأميركا لأن يتحمسوا ويقدموا على ترشيحنا لهذه الجائزة الهامة.
هناك هواجس لدي بعض المثقفين العرب من أداء اللجان المسئولة عن تحديد أسماء الفائزين بجوائز نوبل، كيف تري ذلك ؟
بعض الهواجس لها أساس فعلي من الصحة. والأخرى لا تستند الى وقائع وحقائق فعلية. الجوائز التي تمنحها لجنة نوبل للمبدعين في العلوم الطبيعية، كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والطب والرياضيات وغيرها هي تكاد تكون تماما في محلها وأصحابها بمعظمهم يستحقونها عن جدارة، بينما المسألة تختلف في الجوائز المخصصة لحقل الآداب .والبلبلة والتناقضات الحادة تبرز في منح جائزة نوبل للسلام، هنا تحضر بشكل ملحوظ الأدلجة والتسيس و الشخصنة أحيانا . وهذا ما يثير النقد وحتى الرفض من شريحة واسعة من البشر. بصرف النظر عن هذا تبقى جوائز نوبل هي الأرقى والأكثر أهمية من كل الجوائز الأخرى التي تمنحها الدول والمنظمات الأخرى. ولا يمكنني إلا أن أحيي مؤسسيها ومتابعي رسالتها في أوسلو.
كيف تري العالم اليوم وحالتنا نحن في منطقة الشرق الاوسط؟ وكيف تصف المرحلة المتأزمة التي تعيشها الحضارة الإنسانية في الوضع الحالي؟
أسمح لي أن لا أخوض في تفاصيل مشاكل الشرق الأوسط فهذا موضوع شائق التعقيد و طويل جدا. إلا أن الشرق الأوسط بمشاكله المستعصية منذ زمن طويل و على الرغم من خصوصية أزماته المتكونة والمستفحلة تاريخيا، يحمل في جنباته تقريبا نفس المشاكل والكوارث السّبع التي حلت بالمجتمعات في عصر الحداثة و ما بعدها في الحقبة الحضارية المعاصرة. قعلى خلاف، أو ربّما على غرار العجائب السّبع التي تبهر العين والعقل بأسرارها التي صنعتها خيرة العقول البشرية ، مقابل ذلك هناك الكوارث المجتمعيّة السّبع التي نعيشها في القرنيين الماضيين والحافلة بالكثافة التشاؤميّة في حضورها. هذه الكوارث متموضعة في : الجغرافيا السياسية وصراع الأديان والمذاهب، في الاقتصاد و الديموغرافيا و البيئة، في العقل التقني و العلموي ، في إشكالية القوة و السلطة .
لا يختلف أيّ باحث واقعي يدرس المشاكل المستعصية المجتمعيّة السّبع في المجالات الجهوية و الكونية للمسيرة الحضارية العالمية ، الا بالإقرار بأنّنا تعيش أزمات عميقة الجذور لا بل عضويّة، وقد يضع المرء عينه ورأسه في الرّمال؛ إذا ما قام بتوصيفها بأنّها مرحليّة، وإنّ الحلول على باب الدار. المسألة على عمق تأزمها تتطلّب استحداث علم جديد، أو تسمية جديدة للتشخيص ومحاولة إنقاذ المجتمعات من الاستمرار في جوّ الكوارث المجتمعيّة والنفسيّة والبيئيّة والعقليّة والروحيّة، أطلق عليه تسمية " علم الطبّ المجتمعيّ " . فالحالة المجتمعيّة الكوكبيّة، هي مرضيّة بامتياز، وتمرّ بمرحلة عميقة من الأزمات... وهذا ليس من باب التشاؤم، أو من باب الوقوع بمعرض إطلاق تسميات النهائيّات على " التاريخ " و " الإنسان " و " المعنى " و " الله " وإلى ما هنالك من مصطلحات وتوصيفات تهيمن على الفكر الغربي العلموي. وعلى الأفكار والإرهاصات الصادرة عن المؤسّسات الدينيّة في الشرق والغرب التي تبشّر بنهاية العالم، بل هي حقائف مرة تضغظ بقوة على أنفاس ومصير البشر جميعا.
المسألة بكل ّ بساطة تتمثّل بأنّه في كلّ دورة من الدورات الحضاريّة والمحليّة والعالمية، هناك فترات زمنيّة أو مراحل من عوامل النهوض والأزمة والتفكّك التي تبرز أو تطبع أو تتصدّر هذه المرحلة أو تلك... وفي المراحل التي تعيش فيها المجتمعات والحضارات أزماتها تظهر العوارض الواهنة والمرضية التي تفتك بالجانب الأكسيولوجي (الأخلاق، الجماليّات، الروحانيّات غيرها)؛ وفي الإدارة الاقتصادية والسياسية لشؤون البشرية في ريفها وتجمّعاتها السكّانية الكبرى في المدن؛ في البيئة؛ في حسن أو سوء إدارة الرباعية المسبّبة لكلّ هذه الأمراض وأعني بذلك، المال، السلطة، القوّة والمعرفة. وهذا ما نلمسه في كل بلدان العالم تقريبا وأن كان المشهد يتلون بخصوصية هذه البلد أو ذاك.
كيف تري تأثير فيروس كورونا علي الحالة الانسانية في العالم؟
لقد أيقظت كورونا روح الرؤية التي يتوجب ان تكون متواضعة جدا لدى الأنسان عن نفسه وعن الطبيعة والله والكون . فموضوع الأوبئة والفيروسات التي لا حصر لها هي متواجدة على كوكبنا منذ نشأته، هي ليست ابن حقبة كورونا فقط. الإشكال الكبير هو إن الإنسان ذهب بعيدا في التباعد عن التناغم بينه وبين أمه الطبيعة ومجمل مكوناتها. لقد نتج اختلال كبير في النظرة التي دشنها كل من ديكارت وبيكون والقائلة "على الإنسان أن يكتشف القوانين المسيرة للطبيعة من أجل السيطرة عليها" . وعندما نصب من العقل و العلم آلهة تعبد ، الى جانب العبادة المتأصلة "للعجل الذهبي" ادعى بأنه كاد أو يكاد يسيطر عليها . الحصيلة المرأية أمام أعيننا هو حدوث ذاك الاضطراب مخيف بينه وبينها، فأحدث كوارث كثيرة وليس العنوان الإيكولوجي فيها هو الوحيد. تبين من خلال عدم توصله لفهم القسم الأكبر من أسرار الطبيعة. يبدوا العقل العلمي تحديدا و كأنه ما يزال في صف الحضانة . باختصار غير مخل على العقل العلمي ومعه كل معتنقي الأيديولوجيات المتنوعة و مريدي الأديان والمذاهب أن يتمتعوا بقدر اوسع من التواضع. فنحن أبناء الجنس البشري جميعا نعيش على قشرة أرضية رخوة في ظل مختبر كوني هائل الاتساع ... وهنا لا أريد التوسع في هذه الفكرة فقد يطول الحديث كثيرا .
ما اريد التوقف عنده فليلا هي يعض النقاط الأخرى التي تكاد تكون أما مهمشة أو منسية أو مفتعلة في علاقة العقل العلمي و السياسي والمالي قي محيطها البشري و الطبيعي والكوني. فعلى سبيل المثال وفي الشق المرتبط مباشرة بسؤالكم فإن العقل العلمي و البيولوجي - الطبي بدل أن يركز أبحاثه في سياق المكافحة النوعية للأوبئة والفيروسات بما فيها الكورونا وشبكة تفرعاتها التي كما قلت كانت حتى قبل ظهور الإنسان على الكوكب وهي باقية و ستستمر و تتكاثر، فإن المراكز العلمية في هذا السياق وتحديدا لدى البلدان النافذة والمتمكنة عملت على توجيه الأبحاث لاستخدامها في الحروب البيولوجية الجهنمية لأهداف ليس لها أي صلة بالقضاء على الأمراض والسعي للتحضير الأستباقي لمكافحة الأوبئة. لقد تم في القرون الثلاثة الأخيرة تباعد كبير بين ضرورة وأهمية العمل العلمي في الحياة وبين أخلاقيات العلم. وأضحى العقل العلمي والتقني يبرع في استخدام الطاقة المدمرة للعلم. ألم تكن الحرب العالمية الأولى شديدة الارتباط بالكيمياء ؟، ألم تكن الحرب العالمية الثانية شديدة الصلة بالفيزياء. لقد همشت فعلا الجهود العلمية في مكافحة الأوبئة و الفيروسات, وهمش أكثر البعد الأخلاقي في العلم..
من جهة ثانية ورجوعا الى سؤالك فأنه ليس لدي شخصيا و لدى الكثيرين المعلومة المنطقية المؤكدة التي تقنعني و تقنع الكثيرون حتى الان بأن كورونا مصنع أم طبيعي. فهذا موضوع اشكالي يستدعي المزيد من الإضاءة عليه وهذا ما لم يسنح لنا المجال هنا للخوض الأوسع فيه. .
المهم حسب مقاربتي لمثل هكذا أمور هو إعلاء الشأن الأخلاقي وطاقة البناء الإيجابية في العقل العلمي والتقني . فالآتي أخطر وتحديدا مع مغامرات العصر الرقمي و توتاليتريته ومعه الذكاء الاصطناعي... وإذا ما سارت الأمور حسب السيناريوهات الجهنمية لحيتان المال فأن الانهيار الكبير آت- آت. لذا المطلوب وبإلحاح سريع وشديد إقامة إستراتيجية معرفية – علمية سياسية اقتصادية لتصحيح مسار كل الأمور.
من جهتنا وفي أكاديمية التعليم الروسية التي أتشرف في عضويتها، ومع زملائنا في الأكاديمية الأم أكاديمية العلوم الروسية، ناقشنا مطولا هذه الإشكالات وأصدرنا عددا لا يستهان يه من التوصيات. لا مجال هنا للغوص في تفاصيلها، فقط أتوقف عند جهد شديد التواضع رفعته وناقشته مع زملاء أكاديميين كبار، وهو متعلق بكيفية متابعة الإدارة الشاملة والحكيمة والحذرة للتطور الشديد السرعة لبعض العلوم ولتطبيقاتها في الحياة. تلك التي لم يستوعبها العقل البيولوجي البشري فقط ولا يتمكن من مواكبتها بشكل صحيح. ما نلمسه هو المضي الأرعن في سوق المزاحمات العلمية البهلوانية ، في نهج خط المغامرة لا بل المغامرات ، التي لا يعرف أي إنسان عاقل نهاياتها. هل هي سليمة فعلا للإنسان وأمه الطبيعة ومحيطه الكوني أم العكس من ذلك هناك الكثير - المثير من علامات الاستفهام المقلقة حول ذلك؟؟؟. من هنا كان السعي من قبلنا لاستحداث قانون ملزم يعمل على الكبح العقلاني – المدروس بعناية وحكمة لردع مغامرة تسريع بعض استعمالات التقنيات والعلوم في ميادين التعليم وسير الأمور في الصناعات و تسيير المواصلات والتطبيقات التقنية الاخرى في المدن و المناطق الريفية، وفي عالم التجارب المؤذية في باطن الأرض وعمق البحار والمحيطات ووسع الفضاء ... وهناك مقترحات أخرى لا أتمكن في هذه العجالة من التوقف عندها. خلاصة الكلام في هذا المنحى هو ضرورة العمل الأنشط لعلماء ولحكماء الكوكب من اجل تفعيل ملح - اكبر وأوسع للشأن الثقافي والأكسيولوجي في علومنا و في مجمل أقوانا وأفعالنا : نحن سكان هذا الكوكب الجميل والمعذب بعذابات الطاقة المعتمة في شخصيتنا البشرية.
إذا اردنا تشغيل منطقة الخيال العلمي فما هي السيناريوهات المتوقعة لمسارة حضارة الإنسان اليوم وغدا؟
وإذا شئنا أن نستعين بمنطقة وإشراقات الخيال العلمي لمحاولة رسم السيناريوهات المتوقعة لمستقبل المجتمعات في كوكبنا والسّعي لأعمال العقل المستقبلي في تحديد بعض الأطر والرؤى للأسباب والتبعات التي تجعل السيناريو التشاؤمي أو السيناريو التفاؤلي لمجتمعاتنا قائماً أو مرجحاً، أو بين بين، عند هذا السيناريو أو ذاك، يمكننا الإشارة إلى مجموعة من الاحتمالات قد اختصرها بأربع على المستوى الجيو-استراتيجي والجيوسياسي لمستقبل الحضارة الإنسانية وهي:
الاحتمال الأول : استمرار سير العملية الحضارية على ما هي عليه كوكبياً من تكسّر وتصدّع.
الاحتمال الثاني : إطالة عمر النمط الليبرالي واستبعاد الخيارات الاشتراكية المؤنسنة على الكوكب.
الاحتمال الثالث: فرضية الاستمرار في صدام الحضارات والأديان.
الاحتمال الرابع: إمكانية توسيع وتعميق الحوار والتعاون والشراكة بين الحضارات والأديان والمعارف على أسس مادية وروحية جديدة.
في حال رجحان استمرار الخيار الأول، فأنه سيكون على علاقة وثيقة مع نهج وخطاب الخيار الثاني . وإنه سيعبر عن نفسه من خلال كلّ مكوّناته وفعاليّته المعلوماتية والمعرفيّة والاقتصادية والثقافية للمجتمع ما بعد الصناعي، (أو ما بعد الحداثة)، وفي هذه المسيرة فإنّ الحالة الرخوة وغير المستقرة تبقى على حالها في عدد من الدول والمجتمعات في البلدان" المستضعفة " حضارياً أو التي هي على ضفاف بنية مجتمع مرحلة الحداثة وما بعدها. وهذا ما يقوي من احتمال تمركز مراكز المال والسلطة والقوّة وابتكار التقنيّات والمعارف في يد قادة السياسة والرأي والعلم لمحور ما يُسمّى بالمليار الذهبي...
فهذا المحور الثنائي الجناحين الذي يسعى، انطلاقا من تجربة القوّة والسّعي للتوسّع والهيمنة، من أجل تغذية شرايين عقيدته ودورته الحياتيّة باستحداث تقنيّات جديدة مثل الذكاء الإصطناعي و الاقتصاد الرقمي لاستمرار تفوقه المادي و بهذا سيسعى من خلال إصراره العنيد على متابعة مختلف أنواع حروبه النفسيّة والعقلية و الثقافية لعزل أو حتى قتل أو على الأقل استبعاد كلّ المناهضين لسياساته وخطاباته.
الاحتمال الثالث و هو المتقاطع المتشابك معا مع الأول و الثاني ، والعامل بخاصة على استمراريّة تأجيج كلّ أنواع الصراعات بين الحضارات والأديان و المعارف . وهذا الخيار يحمل في ثناياه تعبئة جهود من يخطّط له بكلّ الخطط الإيديولوجية والعسكرية من أجل إشعال الكوكب في حروب وحروب قد تؤدّي في النهاية في حال امتدادها وعدم القدرة على للتحكّم فيها إلى نهاية كارثيّة للغرب والشرق للمهاجم والمدافع عن نفسه معاً...
الاحتمال الرابع وهو الساعي ليس فقط لتأسيس رؤى جديدة للتواصل و التفاعل و الشراكة بين الحضارات والأديان، القائمة على الحوار, بل أن أصحاب هذا الخيار يسعون لتجديد دورة الاقتصاد والسياسة والقيم والروحانيّات على أسس فلسفيّة نووسفيرية جديدة للتعاون والشراكة بين مجتمعات هذا الكوكب، والقائمة على رسم إستراتيجيّات جديدة للعلم والتعليم والسياسة والدين والبيئة والاقتصاد والهادفة على المستوى الجيوسياسي لإقامة عالم متعدّد الأقطاب متكافئ الفرص والإمكانيّات.
كلّ هذه الاحتمالات القائمة والحاضرة فعلاً في عالم اليوم، من الصعب التنبّؤ لمن تكون فيه الأرجحيّة على المدى القريب والمتوسط حتّى أواخر النصف الأول من هذا القرن.... بيد إنّ المستقبل الذي يولد عادةً من الماضي والحاضر، ينبّأ بتغييرات بنيوية في أبرز معالم التفكير والسلوكية المحركة لعقول وأفعال البشر...
إن المسار الحالي المجتمعي للحضارة الكوكبية انطلاقا من النموذج المادي الاستهلاكي في الغرب والشرق ومروراً بإستراتيجيات وسياسات متنوعة خاطئة حيال البيئة والاقتصاد والتكنولوجيا والقوة والسلطة، يمضي في مسار لا يوجي على المدى القريب بنجاح السيناريو التفاؤلي، بل هو يسير في مسار خاطئ بما هو عليه من تقديس للمال وللسلطة وللفردانية الأنانية والاستسلام للذة حضارة " الشهوة " ... فالمرض لا يطال فقط النموذج الغربي للتطور، إنما يفتك أيضاً في ممارسات وتصورات ثيوقروسطية قابعة في المؤسسات التقليدية الدينية وغير الدينية والتي تسكن بقوة في المدى الشرقي للكوكب.
فالبشريّة أمام منعطفات مهمّة جداً لم تشهدها في كلّ تاريخها: إمّا الانهيار الشامل في حال تأجيج الصدام بين الحضارات أو الازدهار في حال تضافر جميع القوى لخلق ظروف ملائمة أكثر للشراكة العادلة . والمسؤولية لا تقع فقط على الحكومات وصناع القرار في أمكنة مركز القرارات، بل على عاتق كلّ إنسان يعيش على هذا الكوكب.
الإستراتيجية التفاؤلية المنشودة يتوجّب أن تعطي الدور الأكبر لصياغة البدائل النووسفيرية الحضارية للمبدعين الذين لا يعملون فقط على تأسيس الأفكار الخلاّقة والاقتراحات العملية المجابهة لقوى التسلّط والظلام والحروب، بل يسعون لتأسيس ميثاق أخلاق جديد للبشرية يحاول إنقاذها من كارثة حضارة الاستهلاك والشهوة وانفلات الغريزة العدوانية و عبادة المال و الأشياء وتعميم ثقافة " الاثقافة " في الفنون و الجماليات و فضاءات الأيمان. إستراتيجية تسعى إلى التجديد الدائم لتعميم وتعميق ثقافة السلام ، ثقافة الحوار والشراكة والتعاون بين بني الإنسان على هذا الكوكب