سحر الجعارة

 ما الذى تنتظره من زعيم تنظيم إرهابى يهدد العالم أجمع، ويعيد للأذهان مصطلحات مهجورة تحت شعار «الخلافة الإسلامية» والمجتمع الدولى عاجز عن التصدى للبلطجى «رجب طيب أردوغان»، رئيس تركيا، لقد بعث مصطلح «الغزو» من جديد (سوريا ثم ليبيا)، واعتبر أن تحويل كنيسة «آيا صوفيا» إلى مسجد هو فتح عثمانى جديد.. ولم يعد «الفتح» يفرق عن «الدعارة» كثيراً فى قاموس مصطلحات «أمير دولة الخلافة»، فكلاهما مصدر دخل تماماً كما أن الاستيلاء على نفط «دولة محتلة» بخيانة رسمية (تاريخ العرب كله خيانة ومؤامرات) هو أيضاً مجرد مصدر للدخل.

 
لقد تفوّق «أردوغان» على قراصنة الصومال، تفوّق على تنظيم «داعش» الذى يرعاه ويدعمه، لكن الأهم من ذلك هو تكريس نموذج «الإرهابى المسلم» الذى يرتكب كل أصناف المذابح وجرائم الحرب ليرفع راية الإسلام على جماجم البشر!.
 
لو يعرف القواد التركى آية من القرآن لتذكّر قوله تعالى: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ»، «الحج: 40»، فقد قدم الله «الصوامع والبيع» على المساجد!.
 
لكنه يتعمد استعداء الأقباط وتحقير ديانتهم وطقوس عباداتهم، وكأنه يستبدل «العدو التقليدى - الصهيونية اليهودية» بالمسيحى المسالم، تماماً كما استبدلناه من قبل بـ«الشيعة»!.
 
ويحطم منظمة أخرى من المنظمات الدولية التى ترعى مواقع التراث الثقافى العالمى، وتتعاون مع دول العالم للحفاظ على المواقع الأثرية والتاريخية وحمايتها وإبقائها سليمة، وهى منظمة «اليونيسكو».. إنها ضربة جديدة للأمم المتحدة من أردوغان» باسم «حقوق بلاده السيادية».
 
لكن ما يعتبره حقوقاً سيادية هو فى حقيقة الأمر إطاحة بالحرية الدينية، وقد اعتبر مجلس كنائس الشرق الأوسط، فى بيان صادر عن الأمانة العامة، أن هذا القرار هو اعتداء على الحرية الدينية التى باتت بنية مؤسسة فى الضمير العالمى وكرّستها المواثيق والأعراف والقوانين الدولية، وبالتالى يستدعى من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية موقفاً حاسماً مع ترجمة لهذا الموقف باستئناف قانونى لقرار المحكمة العليا فى تركيا لإحقاق العدالة بالاستناد إلى مبدئية الحرية الدينية، كما إلى الرمزية التاريخية التى تمثلها كنيسة «آيا صوفيا».
 
يحدث هذا فى الدولة العلمانية التى أرساها «أتاتورك»، بعد أن تحولت إلى عاصمة للإرهاب، وعصفت بالدستور والقضاء، وعرّت قيادات جيشها، ثم استعانت بالمرتزقة السوريين للإغارة على دول الجوار.. وكأن «أردوغان» يقتص لنفسه من العالم بعد أن رفض الاتحاد الأوروبى انضمامه إليه، أو أن هوس «الزعامة» قد تملّكه بالفعل فأصبح مريضاً يفتعل صدامات وهمية مع العالم تؤجج الفتن الطائفية وتفرض العنصرية البغيضة وتخلق صراعاً بين الأديان.. إنها الورقة الرابحة فى كسب أية حرب تندلع فى المنطقة.. الصراع الدينى والطائفى هو ما أسقط العراق وأشعل حرباً مفتوحة فى سوريا ولبنان.. إنها «إعادة إنتاج» لخطة مجربة ولكن تحت لافتة «الخلافة الإسلامية».
 
سوف أطرح مجدداً التقرير الذى طرحته «نيويورك بوست» وتساءلت فيه: «لماذا لا يتناول الإعلام الأمريكى علاقة حكومة أردوغان بداعش»؟.
 
وجاء فى التقرير أن (أردوغان التزم بـ«الجهاد العالمى»، بحسب تعبيرها، وبالتحديد التزامه بمرتزقة «داعش».. فمنذ عام 2012، يقوم جهاز المخابرات التركية -تحت إشراف «أردوغان»- بتوفير الموارد والمساعدات المادية لـ«داعش»، بينما يغض مسئولو الجمارك الأتراك الطرف عن مجندى «داعش» الذين يتدفقون عبر حدود تركيا إلى سوريا والعراق).
 
وبحسب التقرير السابق ففى عام 2016، نشرت «ويكيليكس» أرشيفاً مكوناً من 58000 رسالة بريد إلكترونى توثق تورط صهر أردوغان «بيرات البيرق» فى مساعدة «داعش» فى التسويق للنفط المسروق من سوريا والعراق.
 
لابد أن نفهم «فتوحات أردوغان» فى هذا السياق، وهو لا ينكر، لا بد أن نضع تحويل كنيسة «آيا صوفيا» إلى مسجد فى إطار تقويض السلام العالمى، وضرب تحالف الحضارات، ونسف كل جهود مبذولة للحوار بين الثقافات والأديان، بهدف التقريب بين الشرق والغرب.
 
البابا «فرنسيس»، بابا الفاتيكان، يعرب عن حزنه قائلاً: «يتجه فكرى إلى إسطنبول وأفكر فى آيا صوفيا وأشعر بالألم البالغ».. لكن القواد التركى يشير على مسيحيى العالم بمراكز الانتقام: «لا نستغرب إذا ما نادى هؤلاء لاحقاً بتحويل الكعبة التى هى أقدم دار عبادة أو المسجد الأقصى إلى متحف».. لم يعد يرى الخليفة المُلهم فى «الحداثة» إلا تحويل قصر يلديز التاريخى بإسطنبول كدارٍ للقمار، وآيا صوفيا كنادٍ لموسيقى الجاز!
 
إن التاريخ العربى يعيد نفسه فى واحدة من أسوأ حلقاته «الجاهلية الجديدة»: حيث غزو الأوطان واحتلالها فتحاً إسلامياً، والقتل على الهوية «الطائفة الأيزيدية» انتصاراً لدين الله، وسبى النساء وتوزيعهن على «التكفيريين» غنائم.. وتحويل الكنائس إلى مساجد «أسوة حسنة»: (فعلها السلطان «محمد الفاتح» حين دخل مدينة إسطنبول فاتحاً فى مايو 1453، وتوجه مباشرة إلى آيا صوفيا.. فغرس رايته كرمز للفتح فى المكان الذى يوجد فيه المحراب، ورمى سهماً باتجاه القبة، وصدح بأول أذان داخله، وسجد سجدة شكر.. هكذا سجّل فتحه)!
 
لكن يبدو أن «الخليفة» خريج صالات القمار وبيوت الدعارة لم يكن متوضئاً ليدشن هتك بيت من بيوت الله، وإعادة بعث مفهوم «أهل الذمة» ليصبح المسيحى منبوذاً شريداً فى وطنه.