«يوم مريب»، ساعاته لا تخلو من الرعب والخوف، يصاحبها إحساس الضياع ومشاعر الحزن.. تلك كانت الحالة التي عاشها سكان «عمارة الشربتلي»، بالزمالك، الأحد الماضي، بعدما تعرض العقار لميل كبير جراء هبوط أرضي بتقاطع شارع البرازيل مع شارع عزيز أباظة (التي يأخذ العقار ناصيتهما) نتيجة لأعمال حفر الخط الرابع، لمترو الأنفاق.
«اللي كنا خايفين من حدوثه وحظرنا منه قبل 3 سنوات حصل خلاص»، بهذه العبارة، بدأت دينا ذوالفقار، نجلة المخرج السينمائي عز الدين ذو الفقار حديثها مع «المصري لايت».
لم تكن معاناة سكان «عمارة الشربتلي» وليدة اللحظة، بل يمتد أصولها لعام 2017، حينما أبدى سكان منطقة الزمالك، وعلى رأسهم قاطني العقار، اعتراضهم على تنفيذ «محطة مترو» داخل «الجزيرة ذات الأرض الطينية»: «مكنتش طبقية مننا لكننا كنا نرى المستقبل وفق رؤيتنا للوضع من على أرض الواقع، ده غير كمان أن احنا مكناش في حاجة لمحطة هنا ومترو الأوبرا على مسافة بضعة أمتار مننا، يدوب الكوبري بينا وبينه».
لم يكن أمام سكان الزمالك وقتها بحسب «دينا» سوى قبول فكرة المشروع، خاصة أنه من المشروعات القومية والتي يتم التخطيط لها بشكل جيد قبل الشروع في تنفيذها، وهو ما بعث في صدورهم ببريق من الطمأنينة، لتبدأ من حينها معاناة سكان «عمارة الشربتلي»: «من أول ما بدأت أعمال الحفر قبل 3 سنوات واحنا عايشين طول اليوم دغدغة وتكسير لكن كنا مستحملين وكنا بنهون على بعضنا ونقول معلش ده مشروع قومي وإن مكنش ولاد مصر يقفوا جنبها يبقى مين اللي هيستحملها».
مع مرور الوقت، بدأت تظهر بعض الشروخ البسيطة في جدران العقار، سرعان ما أصبحت أكثر عمقًا، الأمر الذي لفت انتباه سكان العقار، ليقوموا بدورهم بإبلاغ المهندسين المشرفين عن المشروع، إلا أن الطريقة التي كان يتعامل بها مهندسي المترو مع الأزمة لا تغني ولا تثمن من جوع: «كنا مع كل شرخ جديد ينسج خطوطه على الحوائط نبلغهم بعدها بيشكلوا لجنة لفحص العقار وسرعان ما تنتهي أعمالها على فاشوش».
صباح أول أمس، اشرقت الشمس بشكل مغاير على سكان «عمارة الشربتلي»، بحسب ما تروي «دينا»، والتي تصادف خروجها من العقار صباحًا بمشهد لن يمحى من ذاكرتها خلال المستقبل القريب: «نزلت بدري عشان أروح أجدد رخصتي وفوجئت إن سفارة البحرين الملتصقة بالعمارة سورها بقى بعيد عن العقار، فبقى عندي شكوك إن أنا لسة نايمة أصلًا»، غير أن صوت صياح مهندسي المترو أكد لها يقظتها: «لقيتهم بيطلبوا من أمن السفارة السماح لهم بالدخول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فظننت أن عمارتنا في أمان وانطلقت في طريقي».
تلقت «دينا» مكالمة هاتفية من والدتها في تمام العاشرة صباحًا، ظنت في بادئ الأمر أنها تتصل بها لمجرد الاطمئنان عليها، ليأتي صوت أمها من سماعة الهاتف مخالفًا لتوقعتها: «لقيتها بتصرخ وبتقولي أوعي تيجي، العمارة بتقع»، لا تتذكر نجلة المخرج عز الدين ذو الفقار ما حدث بعدها سوى أن شريط ذكريات طفولتها قد مر عليها خلال الدقائق التي قطعتها من مرور السبتية حتى وصلت البناية: «كنت عاملة زي المجنونة وأنا بجري، افتكرت أيام طفولتي لما كان يجي لبابا فنانين كتير في شقتنا، فاكرة وقت تصوير فيلم نهر الحب لما استضفنا هنا عبدالحليم حافظ، وصباح وعبدالسلام النابلسي، افتكرت ذكريات كتير أوي، لكني فُجعت بالمنظر اللي شوفته بمجرد وصولي».
تحكي «دينا» تفاصيل المشهد أسفل «عمارة الشربتلي»، عقب إخلائها من السكان: «لقيت أمي والجيران مرميين على الرصيف، وكبار السن اللي ممنوعين من النزول للشارع في ظل أزمة كورونا بقوا في مرمى نيران الخطر»، غير أن المعاناة لم تنته عند هذا الحد، فمشاعر الخوف المختلطة بالحزن تلك، زاد عليها الخوف الدفين على الحيوانات التي لم يتمكن السكان من إجلائها خلال مغادرتهم العقار، ولكن سرعان ما تبدل الحال بحضور قوات الشرطة للعقار.
بمجرد حضور الرائد محمد، رئيس نقطة الجزيرة، لمقر العقار، لحصر عدد سكانه، تلقى استغاثات أهل «عمارة الشربتلي» بضرورة الصعود إلى منازلهم لإنقاذ حيوانتهم، واصطحاب بعض من متعلقاتهم الشخصية وهو الأمر الذي وافق عليه فورًا الرائد محمد بعد السماح بصعود سكان كل دور على حده: «مفكرناش في فلوس ولا دهب ولا حتى كنا عارفين إيه الأولوية الفوطة ولا فرشاة الأسنان، اللبس ولا الأجهزة، لكن الأرواح الأليفة كانت الأولوية وخصوصًا أنهم كانوا في حالة هلع وفزع من اللي حصل».
وجوه كثيرة رأتها «دينا» بين جيرانها خلال هذا اليوم، لكنها لا تنسى من بينهم الفنانة القديرة نجاة الصغيرة، والتي حاولت التخفي لتبتعد عن عيون المارة الذين وقفوا يصوروا مصيبتهم على حد تعبير «دينا»: «كعادتها منذ اعتزالها الفن من حوالي 20 سنة، نزلت نجاة متنكرة حتى لا تتعرض لأي مضايقات، كانت هادية بالنسبة لسكان تانية كتير في نفس سنها أصابهم الهلع، كلمت محمد سكرتيرها وأخدها زي ما عرفت لأحد الفنادق القريبة من الزمالك».
صباح يوم «المصيبة» حسب وصف «دينا»، استيقظ ألفرد جورج في ميعاده المعتاد، غير إنه لم يستيقظ على نغمات منبه كما جرت العادة، إنما على صوت صرخات المارة و«سُياس» وحراس العقارات المجاورة: «صحيت يومها على صوت هيفضل مبيروحش من وداني طول حياتي، لقيتهم بيقولوا العمارة بتقع، انزلوا بسرعة هتموتوا»، وقتها هرع «جورج» نحو والديه فورًا من المنزل: «اخدتهم بقينا نجري على السلالم بعد ما الأسانسير وقف ومش عارفين هنخرج من العمارة ولا هتتهد فوق نفخنا».
يعود «ألفريد» بذاكرته لأواخر نوفمبر الماضي، ليكشف لـ«المصري لايت» الحوادث الأولى التي مهدت لما حدث أول أمس: «من آخر 2019 وإحنا بدأنا نحس بهزات غريبة في العمارة، وكنا نسأل مهندسين المترو يقولونا بسيطة متقلقوش حصل خير، لكن المرة دي كانت القاضية».
قبلها بيوم، تحديدًا في تمام الحادية عشر ونصف مساءً، كان ألفريد أنهى عمله في «الجاليري» الذي يمتلكه، على ناصية شارع 26 يوليو، وبينما كان يستعد للصعود لمنزله وجد شروخًا كبيرة في جدران مدخل العمارة، إذ لم يكن بنفس الحال الذي تركه عليه صباحًا: «العمل كان توقف على غير العادة اعتقدت الموضوع كان خرج عن السيطرة وبيحاولوا يجدوا أي حلول له».
ساعات من الرعب والهلع يرويها الشاب ذو الـ 28 ربيعًا، فبمجرد إجلاء والديه من العقار، تولى وشباب «عمارة الشربتلي» مهمة إخلاء جيرانهم من كبار السن: «عددنا كان قليل جدًا بالنسبة لكبار السن اللي منهم كتير قاعدين، فكنا نضطر نشيلهم بكراسيهم، مسبناش مسن إلا ونزلناه»، غير أن ذلك كله لم يكن بالأمر الشاق عليهم، فلم ينغص عليهم تلك المهمة التي استقبلوها بصدر رحب غير: «قالوا لنا سيبونا نموت في بيوتنا إحنا مش حمل بهدلة».
يردف «ألفريد» أن بمجرد الانتهاء من إجلاء كل السكان، كان محافظ القاهرة قد وصل إلى حرم العقار، وأمر بمجرد وصوله بتشكيل لجنة من المهندسين لفحص الأضرار التي لحقت بالعمارة: «بعد حوالي 15 دقيقة فوجئنا بأعضاء اللجنة خارجين يجروا وبيقوله لنا اجروا بسرعة الأرض بتهبط أكتر والعمارة بتريح تاني».
أحداث عديدة عاشها سكان «عمارة الشربتلي»، أول أمس، لكن يبقى أبرزها ما حدث في مكتب الشركة التي تتولى الشق القانوني لمشروع مترو الأنفاق، هناك شعر السكان لأول مرة بطمأنينة لم ينعموا بها منذ وقوع الأزمة صباح ذلك اليوم: «عمارة الشربتلي لها عنوانين ببابين مختلفين بحسب التقسيم الجغرافي للحي، واحدة منهم 12 شارع عبدالعزيز أباظة، دي قالولنا إن في احتمالية كبيرة جدًا أنهم ينجحوا في تصليحها هندسيًا ومعالجة التصدع اللي حصل فيها، والعمارة التانية اللي واخده عنوان 17 ش البرازيل دي ظروفها مش أحسن حاجة لكنهم هيبذلوا أقصى جهدهم، وصرفوا لنا 30 ألف لكل شقة بدل سكن عن الشهر ده، ووعدونا بصرف نفس القيمة كل شهر حال استمرت الأزمة».
«احنا اتهجرنا من بيوتنا وبقينا في الشارع ومنتظرين المجهول بعد ما كنا معززين مكرمين»، عبارة نطقها «ألفريد» بحسرة على ما آلت إليه الأوضاع الحالية لسكان «عمارة الشربتلي»، تلك البناية التي لم تكتسب أهميتها التاريخية، من موقعها الجغرافي فحسب، بل أيضًا للعديد من الشخصيات الفنية التي عاشت بين جدرانها على مدار عقود: «إزاي يبقى ده مصير العمارة اللي عاشت فيها عائلة سعاد حسني ومحمود المليجي وعلوية جميل وعز الدين ذو الفقار وغيرهم كتير العمارة دي إرث مستحيل هنرضى بأي بديل عنه».