أمينة خيري
ثقافة الدعاء على الآخر تحتاج منا نظرة. منذ خرجت إلى الدنيا وأنا أسمع الدعاء على الآخر عبر مكبرات الصوت. "اللهم عليك بالكفرة الزنادقة"، "اللهم احرق القردة والخنازير"، "اللهم شتت شملهم واحرق زرعهم وفرق جمعهم وفرط تدبيرهم"... إلى آخر قائمة الدعاء المعروفة لكل مصري أصيل عاصر، وعايش ما جرى في مصر منذ نهاية السبعينيات، أو مصري أصيل آخر سافر لبلاد أخرى ونهل من مناهل الدعاء على الآخرين، فاعتقد أنه فعل محمود مطلوب.
ومنذ خرجت إلى الدنيا وحتى يومنا هذا، وأنا أرى حرق الزرع وتشتيت الشمل وتفريق الجمع وتفريط التدبير من نصيبنا نحن - الطرف الداعي.
وعلى مدار سنوات عمري وأنا لا أسمع أو أرى من منطقتنا إلا الكثير من الكوارث والمصائب والقليل من المحاسن والمفاخر. سنوات طويلة عُمت فيها على عوم ما نشأت عليه: هما لهم الدنيا ونحن لنا الآخرة، هم ناجحون متفوقون لكن نحن مؤمنون متدينون، خيبتنا القوية سببها مؤامراتهم ومخططاتهم الخبيثة، إحنا زي الفل وهما فيهم العبر، وأيضاً قائمة "البنج" أطول ما يحتملها المقال.
لكن بعضاً من تعقل وتفكير خارج منظومة "لا تجادل يا أخ علي" يمكن للإنسان صاحب مستوى الفهم العادي أن يسأل نفسه: وهل يعقل أن يكون الدين منزوع المحتوى الدنيوي لهذه الدرجة؟
بمعنى آخر: إذا كان البعض زرع فكرة أن الإنسان منا يخرج إلى هذه الدنيا فقط كي يجهز نفسه للآخرة، وكلما دفن نفسه بالحيا وقف في أول طابور الذاهبين إلى الجنة، فلماذا تشبثت بها الملايين بدرجات متفاوتة؟!
فلدينا من تشبث بها حرفياً، فاعتنق أسلوب حياة أقرب ما يكون إلى حياة القبور. ولدينا كذلك من حاول أن يهون على نفسه، فإذا فرح لسماع موسيقى أو مشاهدة فيلم أو تسرب إليه شعور بالتفاؤل، سارع إلى الاستغفار وطلب التوبة محاولاً ألا يعود إلى فعلة الفرح الشنعاء.
ولأن النسخة الجديدة من التفسير التي أهلت علينا في السبعينيات تجعل من كل ما هو مرتبط بالجنس مصدر السعادة الوحيد، فإن تفكير الكثيرين صار مرتبطاً ارتباطاً مرضياً به، وهو ما يعبر عن نفسه في التحرش والنظرة بالغة الدونية لأي أنثى على قيد الحياة (وأحياناً بعد وفاتها كما في نكاح الميتة).
ولا ننسى أثر فكرة أن من يستمتع بالدنيا حتماً يستمتع بها عبر علاقات جنسية مفتوحة وغير شرعية، ومن ثم فهو من الزنادقة والكفرة الذين ندعو عليهم كل يوم جهراً وسراً.
ومضت منظومة الارتباط الوثيق بين المتدين والبؤس الدنيوي ومعها فكرة أن المتدين الحق يجب أن يسعى إلى الموت لتتألق في فكرة العمليات الانتحارية لقتل لنفس والآخرين والتي يسمونها "استشهادية" لتزيينها.
ونعود إلى محتوى الدعاء المعتاد من التضرع لله ليشتت شملهم ويفرق جمعهم لنرى بالعين المجردة أن الشمل المشتت من نصيبنا والجمع المتفرق عليه ختمنا.
صحيح أن المبرراتية يمشون بيننا حاملين شماعات بكل المقاسات، حيث يقولون تارة هذا عقاب إلهي لنا لأننا لسنا متدينين بالقدر الكافي (وبالطبع التدين المقصود هنا لا يمت بصلة لقيمة العمل وتجنب النصب والاحتيال والغش والفهلوة، لكنه مرتبط بعدد دور العبادة التي يتم بناؤها في اليوم الواحد وكثافة مكبرات الصوت)، أو أنها مؤامرات القردة والخنازير إذ يمضون يومهم كله في تخطيطها وحبكها.
لكن أحداً لا يسأل مثلاً عن سبب نجاح هذه المؤامرات دائماً. وإن سأل أحدنا، جاءت الإجابة سريعة: "لأننا (الجماعات الدينية السياسية) لا نحكم، ولو حكمنا فسنصبح أسياد العالم، ونحرر القدس، ونحرق القردة، وندمر الخنازير".
وهناك من يصدق هذا الكلام، ولا يعطي نفسه فرصة لينظر على سبيل المثال لا الحصر إلى ليبيا مثلاً؛ حيث أحد دعاة الحكم باسم الدين والذي لم يتوجه صوب فلسطين لتحريرها بل توجه إلى ليبيا لاغتصابها.
هل لنا أن نذكر أنفسنا بأنه في حال استجاب الله - سبحانه وتعالى- الحق العادل الرحيم الرحمن الواسع المقتدر وحرق هؤلاء وشتت أولئك وأهلك هذه ودمر هذا، فلن نجد الدواء الذي يعالجنا والمناهج العلمية التي ندرسها والسيارات الني تقلنا والهواتف المحمولة التي تحمل أدعيتنا؟
هل لنا أن نتفكر في الدعاء قبل أن نردد "آمين" بكل جوارحنا...؟!
نقلا عن مصراوي