فاطمة ناعوت
مِن ثمارِهم تعرفونِهم». وهذا الرجلُ شجرةٌ وارفةٌ أثمرتْ عشرات الآلاف من الثمار، وبكتْ على رحيله ملايين الثمار. طبيبٌ من النبلاء الذين حقّقوا قَسَمَ «أبقراط»، أبى الطبّ، الذي أوصى الأطباءَ بعدم استغلال المرضى، والرحمة بأوجاعهم وفقرهم. لهذا أطلق عليه الناسُ: «طبيب الغلابة»، فكان أَثْرَى الأثرياء بحبّهم ودعواتهم له بالستر والصحة وطول العمر. تصوّروا كمَّ ثراء رجلٍ ظلَّ يحصدُ دعوات الفقراء نصفَ قرن من الزمان، حتى أصبح شجرة عملاقة أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء، ثمارُ شجرته أجيالٌ متعاقبة من المرضى، الذين عالجهم أطفالًا حتى كبروا، وجلبوا إليه أطفالهم يعالجهم، وعلى يديه يصيرُ الأطفالُ كبارًا أصحاء، جيلًا بعد جيل. وثمارُ شجرته أبناءُ شقيقه المُتوفَّى، الذين قرّر أن يكون لهم أبًا حتى يشتدَّ عودُهم. وثمارُ شجرته أبناؤه الثلاثة، الذين صاروا مهندسين كبارًا يفخرون بأبيهم الطبيب العظيم الذي منح حياته لفقراء المرضى. وأما الثمارُ التي بكت رحيله، أول أمس، فهى مائة مليون مصرى ممن يعرفونه شخصيًّا، أو قرأوا عنه أو سمعوا، فأمطروه بدعوات الترحّم على روحه النبيلة، التي لم تعرف الجشع ولا استغلال وهن المرضى ولا فقر المعوزين.
طبيبٌ شابٌّ تخرج في كلية الطب في عام ١٩٦٧، الذي مرّ على مصر حزينًا طويلًا كطول الكمد، فقرّر الطبيبُ تحويل النكسة إلى رجاء، والكمدِ إلى منحة عطاء فيّاض لا يتوقف، إلا بتوقّف آخر خفقة في قلبه. وكأنه يقولُ للعالم إن بلدًا عظيمًا مثل مصر لا ينكسرُ لأن أبناءه متحضرون ونبلاء، أقوياء بتراحمهم، أثرياءُ بزهدهم في المال والثراء. حديثُنا عن د. «محمد عبدالغفار مشالى»، ابن محافظة الغربية، الذي أَحَبّه المصريون كافّة، وتَرَحَّم عليه كلُّ من شُفى على يديه أو سمع عنه. كان أبوه مريضًا، ولكنه ادّخر تكاليف علاجه لكى ينفقها على ابنه حتى يتخرّج في كلية الطب، فقرر الابنُ الطبيبُ ألّا يترك مريضًا يتألم جرّاء فقره، فإذا اجتمع المرضُ والفقرُ على إنسان، فذاك هو البلاءُ العظيم. وهب حياته وعلمَه للفقراء يعالجهم، بجنيهات قليلة أو بالمجان، ويشترى لهم الدواء من جيبه، إن كانوا مُعوزين. قرابةَ النصف قرن، وطقوسُ يومه ثابتة. يخرج من بيته في الصباح، يشترى لزوجته طلبات البيت، ويوزّع الإفطار على فقراء شارعه، ثم يذهب إلى عيادته يعالج مرضاه دون مقابل إن كان المريض لا يملك قوتَ يومه. ثم يعود إلى بيته ليلًا، لينام ساعات قليلة، استعدادًا ليوم آخر من الحب والرحمة والإيثار. كان «د. محمد مشالى» مثالًا حيًّا لقوله تعالى: «ألمْ ترَ كيف ضربَ اللهُ مثلًا كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبة أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء»، فكان هو تلك الكلمة الطيبة التي امتدَّت نغمتُها الطيبةُ نصفَ قرن تمنحُ الحُبَّ، فتوغّلَ جذرُها في الأرض وطالت فروعُها لتشارفَ السماء. تمنّى أن يلقى وجهَ ربّه واقفًا على قدميه يعالجُ الفقراء، فأعطاه سؤال قلبه، وظل يداوى مرضاه حتى عشية يوم رحيله. يومُه الأخير على الأرض كان عجيبًا. كان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، ونزل كعادته في الصباح يشترى طلبات بيته، ويمنحُ الفقراء فطورهم. في طريق عودته أعطى حارسة بيته عنقودًا من العنب، وصعد ليأخذ حقيبته الطبية، لينطلق كالمعتاد إلى عياداته الثلاث المتناثرة في مدينة طنطا وقراها. لكنه لم يبرح بيته، وصعدت روحه إلى بارئها، ليمنحه اللهُ رجاءه بموته واقفًا متهيئًا للعمل، ويكرمه بصعود روحه على فراشه بين يدى زوجته وأولاده.
في شبابه المبكّر قرأ كتاب «المُعذَّبون في الأرض»، لعظيم الأدب «طه حسين»، فمَسَّ قلبَه عذابُ الفقراء والمُهمَّشين، وقرر أن يحقق شيئًا من العدالة الاجتماعية بمنح علمه للمرضى الفقراء، الذين لا يملكون المال للعلاج وشراء الدواء.
نشكر مؤسسة الأزهر الشريف وإمامه، فضيلة الدكتور أحمد الطيب، الذي نعى الراحل العظيم بكلمة طيبة. ونشكرُ محافظة الغربية، التي أطلقت اسمه على أحد شوارع مدينة طنطا. ونناشد المسؤولين إطلاق اسمه على أحد أقسام مستشفى قصر العينى، الذي تخرج في جامعته، وأجزل العطاء من علومه للمرضى خلال خمسين عامًا، رافضًا تبرعات أثرياء الوطن العربى لهنيته قائلًا لهم: «امنحوا أموالكم للفقراء والمرضى، فهم أحَقُّ بها منى»، وكانت آخر وصاياه لأطباء العالم: «استوصوا بالفقراء خيرًا». اللهم أَسْكِنْ هذا الرجلَ الكريم فردوسَك الأعلى، وثَبِّت في ميزان حسناته ملايين الدعوات الطيبات، التي رفعها البشرُ إليك يوم رحيله. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحنو على فقراء الوطن».
نقلا عن المصري اليوم