عاطف بشاي
لأستاذنا «نجيب محفوظ» قصة قصيرة بديعة، هى «الحوادث المثيرة»، بطلها ضابط مباحث يقتفى أثر سفاح هارب يقتل ضحاياه، من النساء، بطريقة واحدة، ولأسباب غامضة.. ويهرب متنقلاً فى شقق مختلفة، بأحياء متباعدة.. يتمكن الضابط من الوصول إلى عنوان مسكنه الأخير فى إحدى الشقق المفروشة.. يهرع إلى هناك، لكنه يكتشف هروبه.. يحاول فك طلاسم شخصيته ودوافعه إلى الجريمة من خلال سؤال سكان العمارة،.فتتناقض شهاداتهم بصورة مذهلة.. يراه بعضهم قديساً ورعاً مثالاً للخلق القويم، حيث يداوم على الصلاة والإحسان إلى الفقراء والتبرع للأيتام.. ويشاهدونه خارجاً من المسجد بعد صلاة الفجر كل يوم، فيأنسون إلى محادثته والاستفادة من تفقهه فى أمور الدين.. بينما يراه آخرون رجلاً داعراً ماجناً يقيم السهرات الحمراء.. محولاً شقته إلى بؤرة فسق ودنس كل ليلة.. وكثيراً ما يشاهدونه خارجاً من الخمارة القريبة فى الفجر يترنح من فرط السكر.. وهكذا تتناقض الشهادات وتختلف الرؤى وتتنافر التفسيرات.. ويسيطر الغموض ويتضخم الالتباس.
أتذكر هذه القصة دائماً وأنا أتابع وأقرأ أو أشاهد أعمالاً درامية تتناول السير الذاتية لزعماء أو ساسة أو مفكرين أو علماء أثروا ماضينا بأعمالهم المجيدة وإنجازاتهم التاريخية.. فللحقيقة أوجه مختلفة.. ولليقين صور متنوعة.. والنفس الإنسانية الملغزة ترى الوقائع مصبوغة بانطباعاتها الخاصة وتبريراتها المتباينة.. وطبقاً لما تحب وتكره.. وبناء على طريقة تفكيرها.. ومثلما يرى الكثيرون مثلاً أن «جمال عبدالناصر» كان إخوانياً عتيداً انضم إلى الجماعة، ووضع يده على المصحف والمسدس، وحلف يمين الطاعة للمرشد العام.. وأعلن البيعة التامة له على كتاب الله.. يرى آخرون، وعلى رأسهم «خالد محيى الدين»، أن جمال كان يتفاهم مع الإخوان ويتفاهم أيضاً مع الشيوعيين.. ولم تكن هناك غضاضة فى ذلك.. لكنه لم يكن يسمح لرأى طرف منهما بالسيطرة عليه.. أو التحكم فى مسيرة تنظيم الضباط الأحرار.. بل إنه كان على علاقة بـ«يوسف رشاد»، ولم يحمل ذلك أى شك فى خضوعه للقصر الملكى.. الذى كان «يوسف رشاد» ممثلاً له.. ولعله حاول أن يفعل نفس الشىء مع «أمريكا».
كانت سياسة «عبدالناصر» إذاً سواء قبل الثورة أو بعدها هى هى.. أن يقيم علاقات مع كل الأطراف، وحتى مع الخصوم.. وكان يرى أن هذه العلاقات لا تعنى الخضوع أو العمالة..
أما فيما يتصل بإقامة «محكمة الثورة» فإن الجدل حولها يعد- فى رأيى- نموذجاً فريداً وصارخاً لـ«أزمة الديمقراطية».. والاختلاف الرهيب حول مفهومها وجدواها.. وتناقضها مع حقيقة ما يحدث على أرض الواقع، خاصة فى تلك الفترة الفارقة فى مصير مصر بعد الثورة (1952)..
أعلن «صلاح سالم»، عضو مجلس قيادة الثورة، عن الدعوة إلى عقد اجتماع شعبى فى ساحة قصر عابدين لسماع قرار خطير تعلنه قيادة الحركة.. وحسب كتاب «أحمد أبوالفتح» عن «جمال عبدالناصر»، أشار إلى أن «صلاح سالم» هاجم من ينادون بالحكم الديمقراطى، ووصفهم بالخونة.. ثم أعلن فى الاجتماع تشكيل محكمة الثورة من بعض ضباط مجلس قيادة الثورة، حيث تنظر هذه المحكمة فوراً فى قضايا المتهمين بالعمل ضد مصلحة البلاد.. وفى نفس الوقت كانت عمليات القبض والاعتقال تتم وتشمل أهم الشخصيات باستثناء مصطفى باشا النحاس.. ورأت المعارضة وقتها أن هذا الإجراء صورة من صور اغتيال العدالة وعدم احترام القوانين الوضعية والدستور وحرية الصحافة وإهدار آدمية الإنسان.. حيث تلفيق الاتهامات.. ويتضح ذلك فى المادة الثانية، التى تحدد اختصاص المحكمة بالنظر فى الأفعال التى تعتبر خيانة للوطن.. أو ضد الأسس التى قامت عليها الثورة.. وبالنظر إلى الأفعال التى ساعدت على إفساد الحكم وتمكين الاستعمار من البلاد.. وكل ما كان من شأنه إفساد الحياة السياسية واستغلال النفوذ.. وأحكام هذه المحكمة نهائية لا تقبل الطعن.. وبدأ المجلس أعمال محكمته بالقضية التى اتهم فيها «إبراهيم عبدالهادى باشا»، أحد زعماء حزب سياسى، رئيس وزارة سابق.. بالاتصال بجهات أجنبية تهدف إلى الإضرار بالنظام ومصلحة البلاد العليا، وصدر الحكم بإعدامه.. وهنا تبرز مفارقة مدهشة، وهى أن إبراهيم عبدالهادى، المتهم بالعمالة للإنجليز، هو نفسه الذى صدر حكم ضده بالإعدام عام 1919 عندما كان طالبا يجاهد مع الطلبة فى تخليص مصر من الاحتلال البريطانى، وخففت السلطة البريطانية الحكم لصغر سنه.. أى أن الرجل الذى رآه الإنجليز خصماً لهم يستحق الإعدام هو نفسه الذى رأته محكمة الثورة عميلاً للإنجليز، وطالبت بإعدامه..
المفارقة الأخرى أنه فى اجتماع مجلس الثورة، الذى دعا إلى التصديق على الأحكام.. أصر «خالد محيى الدين» على رفض إجماع الأعضاء بتنفيذ حكم الإعدام.. ويقول فى كتابه المهم «الآن أتكلم».. إنه فى هذا الاجتماع حكى لهم قصة «ساكو وفنزين»، العاملين اللذين حكم عليهما بالإعدام، وبعد عشرين عاماً ثبتت براءتهما.. ومازال العمال يحتفلون بعيد «أول مايو» كرمز لاحتجاجهم على هذا الحكم الجائر.. خاصة أن «جمال عبدالناصر» كان قد تحدث معه شاكياً من صلاح سالم لخطأ تقديره أن هناك وثيقة تدين «إبراهيم عبدالهادى»، وهى فى الحقيقة لا تعدو كونها «كلاما عاديا».. ويتم بناء على ذلك إلغاء حكم الإعدام بالنسبة لجميع المتهمين.. وتمضى سنوات عديدة.. ويقابل «خالد محيى الدين» «إبراهيم عبدالهادى» باشا فى المنتزه فى الإسكندرية، فيصافحه بحرارة، قائلاً: أنا مدين لك بحياتى.
هكذا الأيام.. وهكذا البشر.
نقلا عن المصرى اليوم