فاطمة ناعوت
من مفارقات القدر العجيبة أن يرحل «أبى الروحى» فى نفس يوم ذكرى رحيل أبى الحقيقى، فيتحوّل وجعُ اليومِ إلى وجعين، وأفقد أبى فى اليوم ذاته، مرتين. الخميسَ الماضى نُشر مقالى: (أبى.. وعنصرية اليد اليسرى)، هنا بزاويتى بجريدة «المصرى اليوم». وكان المقالُ عن أبى المتصوّف الجميل فى ذكراه يوم (13 أغسطس). ولم أكن أعلمُ أننى سأفقدُ بعد ساعات من نشر المقال، وفى نفس اليوم، أبًا آخرَ عظيمًا ومتصوّفًا، عزَّ أن يُعوَّض، فكأنما رسم لى القدرُ أن أُحيى ذكرى أبى وأبى، فى اليوم نفسه، من كلّ عام.
الخميس الماضى رحل أبى الروحى العظيمُ: «سمير الإسكندرانى»، النجمُ الاستثنائىُّ والبطلُ المصرىُّ، الذى شدا فى حبِّ مصر بخمس لغات: العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الإيطالية، اليونانية، مازجًا النغمَ الشرقى بالغربى فى ضفيرة أنيقة، بحنجرة عزَّ نظيرُها، فكان المطربَ والكورالَ والمؤلف الموسيقى والموزّع، فى آن، فقد كان جبلًا هائلًا من المواهب والعبقريات. وإلى جوار تلك المنح الإلهية، كان رجلًا وطنيًّا يعشقُ مصر ويفتديها بالعزيز الأكرم. لهذا وصفته المخابراتُ المصرية، فى نعى محترم بجريدة «الأهرام»، بكلمات خالدة: «.. الفنان سمير الإسكندرانى الذى قدّم لوطنه خدماتٍ جليلةً جعلت منه نموذجًا فريدًا فى الجمع بين الفنّ الهادف الذى عرفه به المصريون، وبين البطولة والتضحية من أجل الوطن».
كانت وصيتُه أن يُصلَّى عليه فى محراب «مسجد وضريح السيدة نفيسة»، رضى الله عنها. كان لنفيسة العلم، كريمة الدارين، حفيدة الرسول، عاشقةِ مصرَ والمصريين، مكانٌ ومكانة فى قلبه، مثلما فى قلبى وقلوب جموع المصريين. قُبيل الصلاة عليه يوم الجمعة الماضى، وقفتُ أمام نعشه أقرأ الفاتحة وبعضًا من الذكر الحكيم. أنهيتُ سورة «الفجر»: «يا أيتُها النفسُ المطمئنة ارجعى إلى ربِّكِ راضيةً مرضيةً فادخلى فى عبادى وادخُلى جنتى»، ثم غلبنى البكاءُ، فانزويتُ فى ركنٍ قصىّ لئلا يرى الناسُ دموعى، فإذا بصوته يشدو: «يا غُصنَ نقَا مُكلَّلًا بالذهبِ، أفديكَ من الردَى بأمّى وأبى». جفلتُ، ونظرتُ إلى نعشِه، فإذا الجثمانُ الطيّبُ مُسجًّى فى كفنه الناصع. جاء صوتُه الشجىُّ من هاتفى لأن أغنياتِه هى نغماتُ رنينى الدائم منذ سنواتٍ. أتذكره الآن جالسًا جوارى على منصّة «مكتبة مصر الجديدة»، لحظةَ تكريمه، وإعلانى اسمَ النجم المثقف «سمير الإسكندرانى»، الأب الروحى لصالونى الأدبى، فإذا بهاتفه يرنُّ بنغمة موسيقية عادية! اندهشتُ وقلتُ له مستنكرةً: (إيه النغمة دى يا أستاذ سمير؟! اسمع نغمتى أنا بقى)، فإذا بهاتفى يرنُّ بإحدى أغنياته، فضحكَ وقال بصوته الآسر: (يا بختى!) هكذا كان جميلًا وعذبًا ورقيقًا، ومُحِبًّا للجميع. لحظةَ إعلانى خبرَ رحيله للصحف والقنوات، اشتعلت صفحاتى وهاتفى بعشرات الآلاف من الرسائل والتعليقات، فى مظاهرة حُبٍّ ممن عشقوا «سمير الإسكندرانى»: مطربًا فريدًا، وبطلًا قوميًّا عرّض نفسه للتهلكة وتحدّى جهاز الموساد الصهيونى من أجل مصر، وهو بعد طالبٌ فى كلية الفنون الجميلة. حاولتْ إسرائيلُ تجنيدَه جاسوسًا على مصر مقابل ثروة ضخمة من المال والمغانم، فداسها بحذائه وأخبر الرئيسَ جمال عبدالناصر. وصدر قرارُ جهاز المخابرات المصرية بأن يتجاوب مع الموساد ويجاريه لكى نُحبِط أعمال الصهاينة. وبالفعل، استطاع «سمير الإسكندرانى» بذكائه وثقافته ووطنيته أن يصفع الموسادَ صفعةً تاريخية لا تُنسى، فكرّمه الرئيسُ جمال، فى ستينيات القرن الماضى، ومنحه لقب: «ثعلب المخابرات المصرية». وصنع بهذا نموذجًا للفنان البطل، الذى لم يكتفِ بالتعبير عن حبه لمصر بالغناء بصوته الذهب، وكان هذا يكفيه، بل أقرنَ الشدوَ الألماسىَّ بالفعل الوطنى الخطِر، وهو بعد شاب فى مقتبل العمر لم يُكمل العشرين.
أناشدُ الرئيسَ العظيم «عبدالفتاح السيسى» تكريم اسمه بوسام وطنىّ يليقُ بتاريخه المخابراتى الرفيع، وإطلاق اسم «سمير الإسكندرانى» على أحد شوارع القاهرة. وأناشدُ رئيس جامعة القاهرة: «د. محمد عثمان الخشت»، إطلاق اسم «سمير الإسكندرانى» على أحد مدرجات «كلية الفنون الجميلة»، التى تخرّج فيها ودرَّس.
وأشكرُ اللواءَ المحترم، والصديق المثقف: «قدرى الزهيرى»، الذى رافقَ أبى العظيم «سمير الإسكندرانى» على مدار العام الماضى يومًا بيوم طوال رحلة علاجه الشاقّة، فزلّل له الصعابَ وهوّن عليه الألم والمشقّة، وكان له نعمَ الصديق والأخ الكريم. جعلَ اللهُ كلَّ ما صنع فى ميزان حسناته، ومنحه السلام والصحة، وبارك فى أسرته وكريمتيه.
وأقولُ لأشقائى، أبناء «سمير الإسكندرانى»: «نجوى»، «نيڤين»، «عُمر»، لا تحزنوا على أبيكم، فالخالدون لا يرحلون، وصنّاعُ الحياة لا يموتون، فهو باقٍ فى تاريخه الفنىّ الثرىّ، وتاريخه الوطنى المشهود، وتاريخه الإنسانى الذى يذكره كلُّ مَن عرفه عن قرب. ولهذا كلامٌ آتٍ.
«الدينُ لله، والوطنُ لمَن يُمجّدون الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم