فاطمة ناعوت
15 أغسطس، يومٌ مهيبٌ فى تاريخ سلفنا المصرى الصالح. مهرجانٌ أسطورىّ يحتفل فيه أجدادُنا بالنهر العظيم، الذى قدّسوه وكرّموه لأنه سرُّ أسرار الحياة، وسبب حضارتنا التى جعلت مصرَ «أمَّ الدنيا». «الماءُ» كان هاجس الإنسان الأول ليشرب ويزرع. إن وجد النهرَ، استقر وعمّر وشيّد وزرع وابتكر الفنونَ والعلوم، فتنشأ حضارةٌ. أما الصحراويون فيطاردون الآبار. كلما جفّت بئرٌ، بحثوا عن أخرى يتحلّقون حولها حتى تجفَّ، فيتركوها إلى غيرها. هذا السعى المحموم وراء الماء جعل الصحراوىَّ ابنَ ثقافة الرمال، غيرَ مستقر فى مكان واحد، فلا يزرع لأنه لن ينتظر الحصاد، ولا يشيّد عمرانًا لأنه مُفارقٌ أرضَه، ولا يبتكر الفنون والعلوم لأنه رحّالٌ جوّالٌ. وبالتالى لم يُنشئ حضارةً. بيتُ الإنسان النهرى كان حجريًّا راسخًا فى الأرض، بينما بيتُ الإنسان الصحراوىّ كان محضَ خيمة نقّالة يحملها معه فى ترحاله. ولهذا نشأت الحضارات القديمة فقط على ضفاف الأنهار.
لهذا، قدّس أجدادُنا «نهر النيل» ومنحوه اسم الإله: «حابى» أو «حعبى»، وجسّدوه على هيئة تمثال إنسان يحمل معالم الأنوثة والذكورة معًا لكى يحمل معنى الحياة الكامل، متجاوزًا عنصرية النوع. تتجلّى الذكورةُ فى عضلات ساقيه وذراعيه الهائلة، رمزًا للقوة والبأس، وتتجلى معالمُ الأنوثة فى تضاريس الصدر والبطن، رمزًا لخصوبة الأرض بعد الرىّ.
يحمل «حابى» فوق رأسه سلّةً تبرزُ منها زهرةُ لوتس (شعار مصر العليا/ الجنوب)، ونبتةُ بردى (شعار مصر السُّفلى/ الشَّمال)، وسعفةُ نخيل رمزًا لمرور الزمان. كأنما يعترفون لهذا النهر الطيب بتوحيد الشمال والجنوب وضمّ أطراف مصرَ بميثاق غليظ على طول ضفافه. يجلس «حابى» حاملًا على كفيه صينية عامرة بالطيور والأسماك والفاكهة والخضر والحبوب، رمزًا للخير الذى يقدمه النيلُ للمصريين. وأحيانًا يُصوَّر «حابى» على هيئة شابين يافعين واقفين يضفّران معًا سيقان النبتتين معًا (اللوتس والبردى) على ظهر كرسى العرش الملكى، كأنما هذا النهر الخالد يعقد وثاق الصعيد والدلتا فى رباط أبدى لا ينفصم.
كان أجدادُنا يسترضون «حابى» ذا المزاج المتقلّب لأن حياتهم مرهونة بناصيته. إن حزن النيلُ «مالَ واحتجب»، وانحسر ماؤه، فتجفُّ الأرضُ ويموت الزرعُ وتلوحُ المجاعة. وإن انزعج، ثار وفاض ماؤه ليُغرق الأرضَ والبشرَ والماشية والبيوت، فكان لابد من إرضائه حتى يأتى فى منسوبه المعتدل، فيكون قد «أوفى» بعهده. وكانوا يدللون هذا العصىَّ بأمرين:
1- التراتيل الدينية، فيرِّنمون قائلين:
«حعبى/ أبو الآلهة/ أنت الذى تأتى بالمؤنة لتطعمَ مصرَ كلَّها/ وتهب الحياة لكل إنسان وتُلقى الخير فى طريقه/ مجيئك يجلبُ الفرح».
2- القرابين، إذ كانوا يلقون فى النيل الكعك والفاكهة، وكذلك عروس النيل.
ولكن، لا تصدقوا كذبة: «عروسُ النيل الآدمية»، فأجدادُنا الصالحون لم يعرفوا القرابين البشرية طوال تاريخهم، وإنما قدّموا، وحسب، قرابيَن نباتية ورمزية.
كيف تصدق أن أجدادك أغرقوا الفتيات الجميلات فى النهر، هم الذين قدّسوا الحياة، فابتكروا مهرجانًا رسميًّا يمجد الحياة: «شوم أنسم»، ويقيمون الصلوات فى المعابد، ابتهاجًا بأول أيام الربيع، فصل الخصب والحياة، ثم يجتمعون أمام الواجهة الشمالية للهرم، قُبيل الغروب، ليشاهدوا قرصَ الشمس وهو يتحرك ليستقر فوق رأس الهرم، فتسقط أشعتُها الذهبيةُ على قمته كأنما تشطر واجهة الهرم المثلثة شطرين؟!
كيف تصدق أنهم سفاحون، بينما آمنوا بحق الحياة، فكانوا أول مَن فكّر فى البعث بعد الموت. وأطلقوا على الحياة الأخرى كلمة (النهار)، فكان الموتُ هو: (الخروج إلى النهار)؟! إذ من غير المعقول أن تكون الحياة سنواتٍ قليلةً فوق الأرض، يتلوها العدم! فثمة حياةٌ أخرى. وليس من المقبول أن يتساوى الطيبُ مع الشرير! فثمة حسابٌ وثوابٌ وعقاب. وصلوا إلى هذا قبل الرسالات السماوية بآلاف السنين.
كيف تصدق أن أجدادك المتحضرين قتلوا روحًا بريئة، بينما وضعوا شروطًا صعبة لدخول الفردوس، من بينها أن يُقرَّ المتوفى قائلًا: «لم أقتل- لم أتسبب فى دموع إنسان»؟!
قربان «عروس النيل» لم يكن إلا تمثالًا من الجرانيت الأحمر لعروس تشبه «إيزيس»، ربة الفضيلة والخير. يلقون بالدُمية فى أحضان النيل «حابى»، وكأنما ترتمى «إيزيس» فى أحضان «أوزوريس»، زوجها وحبيبها، الذى قتله أخوه «سِت»، إله الشر، حسدًا وحقدًا. كتب أجدادُنا فى الميثولوجيا المصرية أن «فيضان النيل» هو دموعُ أُمّنا «إيزيس» حزنًا على مصرع زوجها. ولهذا كانوا يلقون بشبيهاتها فى النهر حتى يهدأ ويكفّ عن الفيضان الغضوب.
مستحيلٌ أن يقتل مَن قدّسوا حقَّ الحياة، فبحثوا ودرسوا حتى أتقنوا الطبَّ والتداوى وأجروا أول عملية جراحية فى المخ عرفها التاريخ. أولئك أجدادُك الذين يجب أن تفخر بانتمائك إليهم. كُن «سلفيًّا» واعتزّ بأسلافك المصريين، أيها المصرى.
«الدينُ لله، والوطنُ لمَن يعتزُّ بتاريخ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم