زياد بهاء الدين
المعارك التى تغير المجتمع للأفضل وتأتى بالحقوق الضائعة لا تُكسب من جولة واحدة ولا بالضربة القاضية، بل يكون التقدم فيها بطيئًا وتدريجيًا وتقابل كل خطوة فيها للأمام خطوة للخلف حتى يستقيم المسار وتترسخ المفاهيم الجديدة.
ما سبق بمناسبة القضيتين المتداوَلتين على الساحة بعد تقدم عدد من الفتيات بشكاوى عن تعرضهن لتحرش جنسى وما صاحبه من تهديد وابتزاز وترويع. فى القضية الأولى قامت النيابة العامة بالقبض على المتهم والتحقيق معه ثم إحالته إلى المحاكمة الجنائية، وقد اعتبر المهتمون بالموضوع أن هذا مكسب كبير، وإن كنت أُذكِّر القراء بأن المتهم- أى متهم وفى أى قضية- برىء ما لم تثبت إدانته (وليس «حتى» تثبت إدانته كما يُقال أحيانًا).
أما فى القضية الثانية، متعددة الأطراف والأكثر تعقيدًا، فإن الوضع حتى الآن غير واضح. بعض المتهمين مقبوض عليهم، بينما آخرون لا يزالون هاربين، ودائرة التحقيق اتسعت لتشمل بعض مَن أبلغن عن الجريمة وفقًا للمتداوَل إعلاميًا، والتعاطف العام مع الضحية الرئيسية ومع الشاكيات تراجع إزاء ما شاع عن حفلات صاخبة وأموال ومخدرات وغرف فندقية، وحتى المجلس القومى للمرأة- بعدما رفع راية الدفاع عن المجنى عليهن- لزم الصمت إزاء تعقُّد المشهد.
ولكن الحقيقة أن هذه الأوضاع المضطربة والمتناقضة ليست غريبة ولا دليلًا على انحسار الأمل فى تغيير ثقافة المجتمع تجاه التحرش، بل إنها دليل على خطورة الموضوع وتعقُّد جوانبه وصعوبة المخاض الذى يمر به المجتمع فى تعامله مع قضية كامنة تحت السطح ولا يظهر منها فى العلن إلا النزر اليسير. دعونا إذن لا نفقد البصيرة عن أصل الموضوع وعن الحق القانونى والإنسانى الذى يلزم التمسك به.
جوهر الموضوع أن جرائم الاغتصاب والتحرش الجنسى بوجه عام تقع حينما تتعرض الفتاة للاعتداء رغمًا عن إرادتها وبغض النظر عن أى ملابسات أخرى تحيط بالجريمة، بما فى ذلك سلوكها وملبسها وعلاقتها بالجانى وأسباب تواجدها فى مكان الجريمة. هذه ظروف وملابسات قد تعبر عن سوء تقدير أو سوء سلوك ولكنها لا تغير من حقيقة أن الاعتداء تم بغير رضا المجنى عليها، وأن الجريمة بذلك قد وقعت. والقول بأن سلوك الفتاة دافع لارتكاب الجريمة أو مبرر لها يتنافى مع المنطق القانونى السليم، ولو قبلنا به لكان سارق السيارة مستحقًا للبراءة لمجرد أن صاحبها لم يُحْكِم إغلاق أبوابها، ولكان القاتل مستحقًا للعفو لمجرد أن القتيل اختار السير بمفرده فى شارع خطر ومظلم، ولكان بلطجى الحى معذورًا لأن ضحاياه لم يمكثوا فى منازلهم ويؤثروا السلامة. صحيح أن المجتمع يصعب عليه أن يتجاهل سلوك المعتدَى عليها وملابسات الجريمة. ولكن للقانون مساحة فى المجتمع غير الأخلاق، والعدالة معصوبة العينين لا تخلط بين الأمرين. وكما أن على القضاء أن يصدر أحكامه وفقًا للقانون ودون النظر إلى الآراء الشخصية والانحيازات الأخلاقية، كذلك فإن لكل فرد فى المجتمع الحق فى تكوين رأيه فى الآخرين دون أن ينتقص ذلك من حقوقهم القانونية.
جوهر القضية التى نحن بصددها هو حماية الفتيات والنساء من التحرش الجنسى بكل أشكاله، وحماية مَن تجد فى نفسها الشجاعة للإبلاغ عن تعرضها للتحرش، وتوفير إطار قانونى رادع يتيح للمرأة الخروج من المنزل والتعلُّم والعمل والترفيه فى مناخ آمن. أما الأخلاق فلها مجال آخر، مجال التعليم والثقافة والقدوة المنزلية، ومتابعة الأهل لأبنائهم وبناتهم وعدم الاكتفاء بتمويل متطلباتهم ونزواتهم، وتحميلهم المسؤولية عن أفعالهم، وغرس قيمة احترام الآخرين فيهم. وكل التحية والتقدير لمَن وجدن فى أنفسهن الشجاعة للإعلان عن رفض التعرض لهذا السلوك المشين أو السكوت عنه، وللمحامين والمحاميات الذين تطوعوا للدفاع عنهن، ولكل مَن سبقوهم طوال السنوات الماضية من الرجال والنساء فى التوعية بقضية التحرش الجنسى ومناهضتها، ولنتذكر أن الموضوع لا يخص فتاة بعينها أو حادثًا معينًا، بل يتعلق بحقوق كل نساء مصر وفتياتها أيًا كانت أوضاعهن الاقتصادية والاجتماعية، والطريق لتغيير ثقافة التحرش طويل وملىء بالعقبات، ولن يحقق تقدمًا حقيقيًا فيه إلا مَن كان لديه الصبر والإصرار والمثابرة.
نقلا عن المصرى اليوم