د. أحمد الخميسي
" نهب الفقراء" واحد من أهم الكتب الجديرة بالقاء الضوء عليها، لأنها تمس حياة البلدان النامية بشكل مباشر، وامكانيات تطورها الاقتصادي في ظل الشركات العابرة للقوميات وسيطرتها على مراكز وحركة الاقتصاد العالمي. الكتاب ترجمة بدر الرفاعي، أما المؤلف فهو الاقتصادي البريطاني البارز جون ميدلي الذي عمل في بداية حياته بإحدى الشركات العابرة للقوميات لمدة عشر سنوات تفرغ بعدها للأبحاث والدراسات الاقتصادية فتابع نشاط الشركات عابرة القوميات على مدى نصف القرن، وخلال ذلك نشر تسعة كتب في قضايا التنمية، علاوة على نشاطه الصحفي الذي امتد إلى صحف كبرى منها " فاينشيال تايمز" و" أوبزرفر" وغيرها.
ومع أننا جميعا نسمع عن الشركات العابرة للقوميات، أو المتعددة الجنسيات، إلا أن تصورنا عن واقع وقوة تلك الشركات ضئيل مقارنة بدورها الحقيقي، فهي تنشط في مجالات لا تنتهي، يأتي في مقدمتها الغذاء والزراعة والغابات وصيد الأسماك وامدادات المياه والصحة والتعدين والتصنيع والطاقة والسياحة والملابس والسلع الخفيفة. ويبلغ عدد تلك الشركات حاليا نحو 78 ألف شركة يتركز معظمها في أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، وتستحوذ على ثلثي التجارة العالمية، كما أنها تسيطر على ثلثي صادرات العالم من السلع والخدمات، وتغطي استثماراتها بلدان العالم كله، ويعود جزء من قوة تلك الشركات إلى تفوقها التكنولوجي وقدرتها على انجاز المشاريع على أحدث مستوى مما يقضي على قدرة الشركات المحلية على المنافسة. ومن هنا يصبح منطقيا ومفهوما تأكيد جون ميدلي أن تلك الشركات تتمتع بقوة تفوق قوة الحكومات في بعض الأحيان.
من ناحية أخرى فإن تلك القوة الاقتصادية المهولة قد تلقت مع العولمة دفعة كبيرة حين قامت معظم البلاد بتحرير اقتصاداتها والغاء الحواجز الجمركية والتخلي عن سياسة ضبط الأسعار وأشكال الدعم وغيرها من العوائق التي صدت توسع تلك القوة الاقتصادية فيما مضى. الأكثر من ذلك أن معظم البلدان صارت تتسابق من أجل " توفير مناخ موات للاستثمار" أي فتح الطريق تماما أمام تلك القوة الاقتصادية. ويلاحظ جون ميدلي أن تلك الشركات تتجه بصورة متزايدة إلى الدول النامية هناك حيث تكون أجور العاملين وتكلفة العمل أقل بكثير منها في الغرب كما لا توجد نقابات عمالية للدفاع عن حقوق العاملين، وفي الوقت نفسه فإن معظم تلك الدول لا تهتم بالحفاظ على البيئة، علما بأن نشاط تلك الشركات من أكبر مصادر الانبعاث الحراري. لهذا يقول جون ميدلي إن الأفارقة على حق حين يتساءلون :" لماذا نحن أغنياء بهذا القدر ومع ذلك مازلنا فقراء؟"، ذلك أن دول العالم الثالث من أغنى البلدان من حيث الثروات الطبيعية، وأفقرها من حيث مستوى المعيشة. وتؤكد احصائيات الأمم المتحدة أن هناك نحو مليار ونصف مليار انسان فقير في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، تشكل النساء والبنات سبعين بالمئة من أعدادهم، بينما تبلغ ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم ما يُعادل الناتج المحلي لأفقر 48 دولة !
وفي ظل تلك القوة الاقتصادية الغاشمة يموت من الجوع سنويا نحو 18 مليون انسان، ويهلك سوء التغذية ستة ملايين طفل سنويا. ويتناول جون ميدلي بالتفصيل قضية الدواء في ظل هيمنة تلك الشركات فيقول إن تقرير منظمة الصحة العالمية في 2007 قد أشار بالفعل إلى أن العالم سيواجه بصورة متزايد الأوبئة والأمراض، إلا أن ثلث البشرية، نحو ملياري انسان، لايسعهم الحصول على الدواء لأن حفنة من شركات الأدوية العملاقة تتحكم في سعر الدواء مثل شركة " فايزر" ، و" جونسون آند جونسون" وغيرهما، هذا بينما تعادل قيمة شركات الأدوية الخمس الأكبر مجتمعة ضعف اجمالي الناتج المحلي لكل بلاد أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى! فقط خمس شركات!! ويؤكد جون ميدلي بمرارة أن الأدوية
" ليست منتجا عاديا ومن الواجب احاطتها بمباديء أكثر أخلاقية من غيرها من المنتجات". لكن القوة الاقتصادية العابرة للقوميات لا تأبه بشيء، وهي مثل العاصفة تحطم في طريقها كل القيم الانسانية من أجل المزيد من الربح بغض النظر عن أي شيء.
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري