بقلم :علي شوشان 

كنت قد طرحت تساؤلا عن أسباب كراهية إيدن لعبد الناصر.. واليوم أعرض وجهة نظر السير أنتونى ناتنج الذى كان يشغل منصب وزير خارجية بريطانيا بالإنابة، ووقع مع مصر اتفاقية الجلاء في 1954 وظل بمنصبه حتى وقت العدوان الثلاثى في 1956... يقول ناتنج:

(( لقد بدأت أزمة السويس حقيقة فى اليوم الذى أقال فيه الملك حسين ملك الأردن الجنرال جلوب من منصبه كقائد للأركان فى الجيش الأردنى.. ذلك أنه فى هذا اليوم بالذات أعلن أنتونى إيدن حربه الشخصية ضد جمال عبد الناصر.. هذه الحرب إلى تصاعدت حتى بلغت ذروتها بغزو السويس. قبل هذه الواقعة.. كانت مشاعر إيدن تجاه الرئيس عبد الناصر - فى اعتقادي - تتميز بالفضول أكثر منها ميلا للعداء.. بل إن إيدن عندما كان وزيرا للخارجية كان يدافع بحماس وحرارة ضد العناصر العنيدة المتجمدة من حزب المحافظين - وحتى فى الأوقات الى كان فيها تشرشل نفسه موجودا - من أجل تسوية المسائل التى كان يرى التفاوض بشأنها مع مصر مثل مستقبل السودان المستقل.. ثم بالطبع على الأخص.. القضية الأكثر أهمية وهى انسحاب القوات البريطانية من قاعدة السويس. 

وعندما استطاع إيدن أن يحقق إنجاز التسوية النهائية.. وبعد أن قمت أنا بالتوقيع مع الرئيس عبد الناصر على اتفاقية ٥٤.. أذكر أن إيدن أصدر إلى تعليماته بأن أبقى فى القاهرة.. وطلب منى أن أحادث عبد الناصر وأن أتعرف على مدى استعداده بعد أن أنهينا حقبة عتيقة وغير سعيدة من العلاقات بين بلدينا.. لوضع أسس مرحلة جديدة من الصداقة والتفاهم بيننا وفقا لروح الاتفاقية الجديدة. 

وفى اعتقادي أن إيدن كان شديد السعادة والتفاؤل عندما قدمت له تقريري بعد عودتى إلى انجلترا وفيه أعرض انطباعي بأن عبد الناصر يريد أن يصل مع بريطانيا إلى أقصى حد ممكن من التعاون إلا فيما يتعلق بالتحالف العسكرى، الذى أوضح لى أنه لا يمكنه الخوض فيه .. وخاصة بعد أن استطاع بالكاد أن يوقع اتفاقية للتخلص من وجود القوات البريطانية فى منطقة قناة السويس.

بعد هذه المرحلة أعتقد أن الأمور انحدرت فى طريق خاطئ وسيئ.. ذلك أنه فى أعقاب الاتفاقية وأثناء زيارة إيدن للقاهرة ومقابلته لعبد الناصر.. أحس عبد الناصر - إن خطأ أو صوابا - أن إيدن كان يحاول أن يضعه فى ظله وأن يتعامل معه بعجرفة أو استعلاء.. وأنه وكأنه يمثل دور رجل الدولة العريق أمام كولونيل صغير حديث العهد بالسياسة، وكأن الصدف وحدها قد جعلت منه قائدا لمصر الحديثة.

ثم حدث بعد ذلك أن أعلنت مصر فى أعقاب الغارة الإسرائيلية عل غزة، أنها وقد أخفقت فى الحصول عل أية أسلحة من أمريكا ومن بريطانيا، فإنها قد أبرمت صفقة لاستيراد الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا.

وقد يكون مستغربا حقا أن هذه الخطوة لم تستفز إيدن عن مساره، وكان إيدن فى ذلك الوقت كما نعرف قد أصبح رئيسا للوزراء وبذلك أصبح مسئولا عن الشئون الداخلية فى بريطانيا إلى جانب مسئوليته عن إدارة سياستها الخارجية. وكانت الجبهة الداخلية هى أول ما بدا عليها علامات التدهور الحاد بعد فترة قليلة من تولى إيدن رئاسة الوزارة. وإلى جانب متاعبه حيالها، جاءته المتاعب والمشاكل من هذا الجزء من العالم.

غضب إيدن للهجوم الذى صبته مصر على العراق بسبب انضمامها إلى بريطانيا فى حلف بغداد .. هذا الهجوم المصرى الذى امتد إلى بريطانيا نفسها لمحاولتها ضم الأردن إلى هذا الحلف.. ولكنه على الرغم من ذلك، فقد واصل إيدن تأييده لفكرة قيام بريطانيا وأمريكا مع البنك الدولى بتمويل ومساعدة مصر فى بناء السد العالى .. لا لأنه كان يستهدف مساعدة مصر أساسا.. ولكنه كان يريد بذلك أن يحول دون قيام الروس بمساعدة مصر فى بناء ذلك السد... وإني لأتذكر أنه كان يكرر على مسامعي قوله: بأى ثمن يجب أن نبعد الدب الروسى عن وادى النيل!

كانت هذه هى الحالة حتى أشرفنا عل نهاية عام ١٩٥٥.. ولم يكن إيدن حتى ذلك الوقت قد استطاع أن يحدد موقفه من عبد الناصر.. لم يكن. واثقا منه.. وكان يشعر بالمرارة لرد الفعل المصرى تجاه حلف بغداد.. كما لم يكن مراره أقل تجاه حملة مصر على العراق. 

ولكن فى مطلع عام ١٩٥٦ جاءت الضربة التى فاقت مرارتها كل شيء: "طُرد الجنرال جلوب من الأردن" حيث كان وقتها رئيسا للأركان فى الجيش الأردنى.. هذه الواقعة التى التقطها معارضو إيدن لمهاجمته زاعمين أنه حتى فى مجال تخصصه وهو السياسة الخارجية.. بل وفى أخص مجالاته وهو الشرق الأوسط، قد لحقته الهزيمة.. وبدأ الانهيار يدب حتى فى هذا المجال.. 

ولقد أمضيت معظم تلك الليلةـ، ليلة طرد جلوب، مع إيدن أحاول أن أحلل على أسس عقلانية تصرف الملك حسين بطرد ذلك الجنرال العجوز من رئاسة أركان جيشه.. ولكن إيدن أصم أذنيه عن كل هذا.. ولم يكن فى ذهنه غير زعم واحد: " أن هذا هو من فعل عبد الناصر!! ..". 

ومنذ تلك اللحظة حتى النهاية لم تعد الدنيا تستطيع أن تتسع لاثنين معا: إيدن وعبد الناصر.. 

فى تلك الليلة أعلن رئيس الوزراء إيدن "حربه الشخصية على الرئيس عبد الناصر..

تلك الحرب التى بلغت ذروتها بمأساة السويس.. بل إن إيدن قد ذهب إلى أبعد من ذلك.. فقد قرر أن يرتدى عباءة سلفه ونستون تشرشل- بكل ما يحتويه هذا التعبير من أبعاد - فتخلى عن دور "الدبلوماسي" لكى يتقمص دور "المحارب"... 

ظل ايدن خلال الأشهر الخمسة التالية عاجزا عن أن يجد أية فرصة ليضع حربه المعلنة ضد عبد الناصر موضع التنفيذ.. وكان عليه أن ينتظر حتى حل شهر يوليو ١٩٥٦ عندما قام المستر جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأمريكية، باستدعاء السفير المصرى فى واشنطن وأبلغه قرار الولايات المتحدة الأمريكية بسحب عرضها لتمويل السد العالى.. وسارع إيدن فاقتدى بدالاس، وبالطبع سقط بالتالى عرض البنك الدولى لتمويل السد. وكلنا نذكر ما حدث، فبعد سبعة أيام أعلن جمال عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس. 

وظن إيدن أن الفرصة التى كان يبحث عنها قد جاءته...! لقد أعد خططه العسكرية مع فرنسا لمهاجمة مصر - تلك الخطة المشهورة فيما بعد باسم موسكيتير - ولكن ناصر لم يعطه أية فرصة ليتخذها مبررا لتنفيذ هذه الخطة! فلا تعطلت أية سفينة فى القناة أو توقفت، على الرغم من أن السفن البريطانية والفرنسية وسفن بأعلام أخرى - تحت ضغط بريطانيا وفرنسا - ظلت تدفع رسوم المرور فى القناة إلى الشركة القديمة وليس إلى الهيئة المصرية... ولم تتوقف أية سفينة، ولم يحل دور أية سفينة دون العبور فى القناة.. ولم يقع أى ضرر على أى من الرعايا البريطانيين فى منطقة القناة وفى قاعدة القناة.. أو فى أى مكان آخر فى مصر.. لاضرر ولا إساءة.. 

وهكذا أسقط فى يدى إيدن الذى لم يجد أى مبرر يتعلل به لتنفيذ خطته العسكرية ومن ثم أحذ يبحث عن وسائل أخرى للضغط عل مصر.. 

كان جى موليه، رئيس وزراء فرنسا، مقتنعا تماما - مثل أنتونى إيدن- بأن كل متاعبه فى العالم العربي كان سببها عبد الناصر.. وأنه إذا أمكن إزاحة عبد الناصر فإن ثورة الجزائر - والتى اشتعلت زهاء سنتين- سرعان ما تتوقف..

وهكذا.. فى ١٤ من أكتوبر.. وفد إلى بريطانيا مبعوثان فرنسيان ليضعا الأمر بين يدى إيدن.. المسيو جازييه، الذى كان وزيرا للخارجية بالنيابة فى فرنسا، والجنزال شال، الذى لعب فيما بعد دورا مشهورا مشينا فى حركة الجيش السرى الجزائرى... وصل مسيو جازييه والجنرال شال إلى تشيكرز (المقر الريفى لرئيس وزراء بريطانيا) فى سرية ليقدما إلى إيدن فكرة استخدام إسرائيل فى إيجاد الذريعة لتيرير التدخل العسكرى الأنجلو-فرنسي ضد مصر.. هذه الذريعة التى كان يتوق إليها منذ شهر يوليو.. وهكذا وجد إيدن أخيرا فرصته الذهبية.. فتلقفها وتشبث بها بكلتا يديه..

ولكن الشيء الغريب - والمحزن فى نظرى - أنه فى تلك الأثناء.. وفى نيويورك.. وقبل يومين فقط من وصول المبعوثين الفرنسيين إلى تشيكرز، كان سلوين لويد وزير خارجة بريطانيا وكريستيان بينو وزير خارجية فرنسا، قد توصلا بحضور المستر داج همرشولد السكرتير العام للأمم المتحدة إلى الخطوط العريضة لاتفاق مع الدكتور محمود فوزى، يعطى لبريطانيا وفرنسا - بصورة واقعية وعملية - كل ما يحتجانه من الضمانات التى تؤكد أن قناة السويس ستظل تدار فى المستقبل وفق احتياجات الدول المستخدمة لها.. وأن هذه الخطوط العريضة للاتفاق، سيجرى صياغتها والتوقيع عليها فى اجتماع يعقد فى جنيف..

ومن الغريب أن الموعد الذى اتفق على عقد هذا الاجتماع فيه كان هو ٢٩ أكتوبر.. هذا اليوم المشهود بالذات.. ومفهوم طبعا.. أنه لا إيدن.. ولا موليه.. كانا يريدان اتفاقا.. كان كل منهما يريد نصرا.. وفى الخطة الى تواطأ الفرنسيون مع الإسرائيليين على إعدادها.. وجد إيدن وموليه ما يعتقدان أنها الفرصة لتحقيق ذلك النصر.. وبدأ الهجوم الإسرائيلي على مصر فى ٢٩ أكتوبر.

وهكذا.. وفى مساء يوم ٣١ أكتوبر، قامت قاذفات القنابل البريطانية بضرب القواعد الجوية الأربعة الرئيسة لمصر.. لتشل تماما فاعلية طائرات الاليوشن المصرية.. وما بعد ذلك تاريخ معروف...

ولما كنت فى ذلك الوقت قد فشلت فى الحيلولة دون وقوع هذه المأساة.. شعرت بأنه لا يمكنني أن أكون مدافعا عن موقف الحكومة، سواء أمام مجلس العموم أو أمام الأمم المتحدة.. وكان على أن أستقيل..

 

أما إيدن الذى كان يخطط لمجد ساطع ونصر عسكرى ساحق.. اضطر للاستقالة بعد شهرين.. وانزوي محطماً يواجه نهاية مأساوية لرجل حاول أن يلعب دورا لا يناسبه..))