مؤمن سلام
تُمثل المصلحة المرسلة أحد مفاهيم أصول الفقه الإسلامي الهامة والتي يستخدمها الفقهاء في الإجتهاد واصدار الفتاوي في المسائل المختلفة، ولذلك هى أحد أسباب الخلاف المذهبي بين الفقهاء، فهناك من يأخُذ بها وهناك من لا يعترف بها. وهى مثل كثير من المفاهيم الأصولية والفقهية التي لا تُثير كثير من الجدل والمشاكل عند تطبيقها على المستوى الفردي حيث يستطيع كل فرد أن يُحدد مصلحته ولكن تحدث الأزمة ويتعقد الأمر عندما ينتقل الأمر من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي نتيجة خلط الدين بالسياسة.

ويظهر الفارق بين الفردي والجماعي بوضوح عند النظر إلى تعريف المصلحة. فيُعرفها الشيخ يوسف القرضاوي على موقعه الرسمي بأنها "كلُّ مافيه صلاح ونفع للخلق في دنياهم أو في دينهم، وبتعبير الفقهاء: في معاشهم أو في معادهم، سواء كانت مصلحة فردية أم جماعية، مادية أم معنوية، آنية أم مستقبلية"، ويقول الشيخ محمد ابو زهرة في كتابة تاريخ المذاهب الإسلامية تحت عنوان المصلحة المطلوبة في الإسلام "وإننا نقرر هنا أن المصلحة الحقيقية التي طلبها الإسلام هى الثابتة في الأحكام الإسلامية التي وردت فيها النصوص من القرآن الكريم والسنة الشريفة، وما يكون مشابهاً للمصالح التي اشتملت عليها النصوص، وما يكون من جنسها وليس لفقيه أو لغير فقيه أن يدعي مصلحة يضفي عليها الإسلام اسم المصلحة تكون مصادمة للنصوص، فإن تلك هى الهوى الذي نهى القرآن والحديث عن اتباعه. والمصلحة التي تضافرت النصوص كلها على اعتبارها، هى المحافظة على خمس أمور: وهى الدين، والنفس، والمال، والعقل، والنسل، وذلك لأن الدنيا التي يعيش فيها الإنسان تقوم على هذه الأمور الخمسة، لا تتوافر الحياة الإنسانية الرفيعة إلا بها، وتكريم الإنسان هو في المحافظة عليها."

بهذا نرى من خلال كلام الشيخين أن تطبيق المصلحة على المستوى الفردي هو أمر سهل وبسيط فلكل إنسان أن يسعى نحو تحقيق مصالحه دون أن يعتدي على دين أو روح أو مال أو عقل أو نسل الأخرين، فهذه بديهيات لا يختلف عليها عاقلان متحضران، فأنت حر ما لم تضر، إلا أن الأزمة تظهر مع اخراج هذا المفهوم من الفردية إلى الجماعية كما فعل القرضاوي في تعريفه. فاذا كان الإنسان يعرف مصلحته الشخصية، فان المجتمع هذا الكيان المعنوي الذي يتكون من أفراد مختلفة في مستوى العقل والفكر والمعرفة، بالتأكيد سيختلف أعضاء هذا المجتمع في تحديد المصلحة العامة للمجموع، ومن هنا يأتي دور السياسة والديمقراطية، ليختار أفراد المجتمع بارادتهم الحرة من يُمثلهم وينوب عنهم في تحديد المصلحة والقيام على تحقيقها.

إلا أن في ظل الفكر الإسلامي الذي لا يؤمن بالدولة الوطنية ولا بالوطن ولا بالحدود ويؤمن أن "جنسية المُسلم هى دينه" وأن المسلمين كيان واحد من طنجة إلى جاكارتا ومن غانا إلى فرغانة، يُصبح أمر المصلحة أكثر تعقيداً وأكثر إضطراباً. فوفقاً لهذه الرؤية الأممية التي لا تعرف الحدود يُصبح تحديد المصلحة أمر عسير وربما مستحيل، لأنها مصلحة عابرة للحدود والمجتمعات والعرقيات، مصلحة تُحددها الخلافة الإسلامية وليست الدولة الوطنية.

فوفقاً لهذه الرؤية مصلحة المغرب يجب أن تكون هى مصلحة أندونيسيا، ومصلحة السودان هى مصلحة تركيا، وبالقياس ما يهدد الأمن القومي المصري هو ما يُهدد الأمن القومي الماليزي، وما يُهدد الأمن القومي السنغالي هو ما يُهدد الأمن القومي العراقي. لهذا لا تستطيع الدولة، وفقاً للفكر الإسلامي، في الجزائر مثلاً أن تتخذ قرار، خاصة في سياستها الخارجية، لتحقيق مصالح الشعب الجزائري إلا إذا تأكدت أنها تتوافق مع مصالح المسلمين في كازاخستان، حتى تعود الخلافة ويكون هناك خليفة للمسلمين.

لهذا فمهوم المصلحة في الفكر الإسلامي هو مفهوم مُلتبس ويُثير الكثير من الإشكاليات عند إخراجه من إطاره الخاص إلى المجال العام، حيث يفتح المجال لمزايدات حركات الإسلام السياسي على سياسات الدولة الوطنية، فعندما تحتج دولة ما بمفهوم المصلحة الإسلامي لتبرير سياساتها، هى في الواقع تفتح الباب أمام جدل ديني حول سؤال مصلحة الوطن أم مصلحة الأمة الإسلامية، ولأن مصلحة الوطن غير مُعتبرة في الفقه الإسلامي يُصبح موقفها ضعيف ومحاولتها تسويق قرارها على أساس ديني، محاولة فاشلة.

من هنا، فابعاد الدين عن الدولة هو أمر أساسي، وذلك بالعودة إلى مفهوم المصلحة العلماني، حيث المصلحة هى مصلحة الوطن وأفراد الوطن وحاملي جنسية الوطن دون تمييز بينهم على أساس العقيدة أو الجنس أو اللون أو العرق أو المستوى الإجتماعي، وبغض النظر عن مصالح مجتمعات أخرى تختلف في أوضاعها الإقليمية والاقتصادية والإجتماعية والتاريخية وان اتفقت في العقيدة.

المراجع
1- موقع الشيخ يوسف القرضاوي
https://www.al-qaradawi.net/node/4041 (https://www.al-qaradawi.net/node/4041)
2- الشيخ محمد أبو زهرة – تاريخ المذاهب الإسلامية – دار الفكر العربي - ص. 294