سحر الجعارة
توقفت طويلاً أمام عنوان مقال الأستاذ «محمود مسلم»، رئيس تحرير جريدة الوطن، والذى نشره بتاريخ 12 سبتمبر الجارى: (الغلابة وقود معارك المخالفات!!).
العنوان ارتبط فى ذهنى بفيديو تلح عليه قناة «الجزيرة» وأخواتها (مكملين والشرق وغيرهما)، لبعض الذين أُزيلت منازلهم «المخالفة» بهدف التحريض ضد النظام المصرى، ومحاولة تصوير تطبيق القانون على أنه اضطهاد للفقراء أو «قتل عمد».. فإذا برئيس التحرير، بكل رصانة وهدوء، كما هى لغته المعتادة، يكتب ويظهر فى عدد من الفضائيات، (وهو قليل الظهور)، ليطرح الأسئلة التى تدور فى بال كل مواطن يتابع المشهد، سواء تضرر منه أم لا.
كان «مسلّم» أول من حذّر من الاستماع للإخوان وقال، خلال حواره مع الإعلامى وائل الإبراشى مقدم برنامج «التاسعة»، عبر القناة الأولى: «يجب ألا نستمع إلى الإخوان، لأنهم مابقوش عندهم هدف فى حياتهم غير تدمير هذه الدولة أو نظام 30 يونيو، وفشلوا فى كل حاجة، ويُحسب لهذا النظام وهذه الحكومة إنهم بيعملوا الكلام ده فى وقت الانتخابات، بعدما تعودنا على العكس، وإن موسم الانتخابات هو موسم الاستثناءات، وموسم الرشاوى الانتخابية».. والحقيقة أنها لقطة فى منتهى الذكاء، لأنها أولاً تؤكد «قوة القانون» وقدرة الدولة على تطبيقه.. إنها اليوم تطالب المواطن بما عليه من مخالفات بدلاً من استخدام «المال السياسى» الذى أفسد العملية الديمقراطية برمتها فى العهد الماضى.
كان من السهل أن أرصد بنفسى تطورات المشهد وثغراته، إن وُجدت، لكن الأمانة المهنية تقتضى أن أنسب الأسئلة الشائكة لمن طرحها.. بالإضافة إلى أن ما طرحه «مسلم» هو منتهى «الشفافية» بالتعبير الأنيق، لكنه أيضاً ما كنا نسميه سابقاً «المعارضة من الداخل».. بمعنى أن تكون فى رحلة بالطائرة لتستعرض مع رئيس الحكومة الدكتور «مصطفى مدبولى»، كمّ الأراضى المنهوبة، لكنك قادر على مراجعة الموقف «من داخل النظام» وبموضوعية وحياد شديدين.. وهذا هو دور الإعلام الوطنى.
فى مقابل «الغلابة» يُحسب للأستاذ «مسلم» أنه أول من طالب بالكشف عن أباطرة الاتجار فى العقارات المخالفة لقوانين البناء (5 رجال أعمال، من كبار العاملين فى مجال المقاولات منذ سنوات طويلة، ولديهم أبراج فى كل مكان فى الإسكندرية تقريباً، على حد تعبير المنشور بجريدة الوطن).
وبحسب نفس المصادر فإن الـ5 رجال أعمال هم: محمد إسماعيل، وجمال الغنيمى، وشقيقه خميس الغنيمى، وجمال حمادة، وعزيز شنودة.. وقد سدد جمال الغنيمى 100 مليون جنيه وتبقى عليه 50 مليون جنيه، وسدد شقيقه «خميس» 100 مليون ويتبقى عليه 50 مليوناً.
السؤال الأهم كان حول الفساد الذى ينخر كالسوس فى العمود الفقرى للدولة، والذى سهّل لرجال الأعمال وغيرهم الاستيلاء على أراضى الدولة والبناء بدون تراخيص.. إلخ تلك المخالفات.
طالب «مسلّم» الحكومة بأن تعلن أسماء رؤساء الأحياء والمهندسين الذين أُحيلوا للمحاكمة، والذين وصل عددهم إلى 600 موظف فى «فساد المبانى»، وأن تفتح حواراً مع كل المسئولين فى الأحياء والمدن والقرى والمحافظات، لضمان تنفيذ كل توجهاتها بدقة، والتيسير على الناس، وأن تتخذ إجراءات حاسمة جداً لمنع تكرار أى مخالفة، ومحاسبة المخالف والمسئول معاً، سواء قام بالتسهيل أو التغاضى، حتى لا يتكرر ما شاهدناه أمس فى الخصوص وكفر سعد من مخالفات صارخة وأبراج على أراضٍ زراعية وعلى النيل، وحتى لا يحاول أحد أن يُشعل وقود الغلابة مرة أخرى.
فلا معنى لأن تعاقب الفاسد وتترك من أفسده يكرر نفس المهزلة بتفاصيل مختلفة، خاصة أن قانون التصالحات يوقع الغرامات على المخالف، لكنه يطبق عقوبات إدارية قد تصل إلى السجن بالنسبة للموظف العام.
ربما لم ينتبه أحد إلى شق مهم فى فوضى مخالفات البناء، لقد انشغلنا بقيمة الغرامات وأغفلنا أن معظم المخالفات، خاصة تعلية الأدوار دون أن تتحمل الأساسات، أو البناء على حافة ترعة «طمى»، يعرّض حياة البشر للخطر، وقد رأينا عمارات تميل وأخرى تقع بعد عدة أعوام من بنائها.
نعم.. الموقف غاية فى القسوة لآلاف السكان ممن اشتروا بحسن نية أو دفعوا «خلوّ رجل» ثم اختفى «المالك» الذى يُفترض أن يسدد المخالفات.. وهذا وضع شاذ وغريب لأن القانون لا يعترف بحسن النية.. ولا يحمى المغفلين للأسف!.
لقد قال رئيس الوزراء: «لا نكابر.. ونتعلم على الأرض.. وأسعار التصالح تمت وفقاً للتقييمات السوقية، لكننا نراعى البعد الاجتماعى.. وأى شىء فى مصلحة المواطن سنفعله».. وبالفعل قرر الدكتور «مدبولى» تعديلاً فى ملف التصالح فى مخالفات البناء، والتى كان منها دفع القرى 50 جنيهاً للمتر الواحد كحد أدنى فيما نص عليه القانون.. وهو قرار كفيل بإزالة الاحتقان وإقناع المواطن بالاتساق مع القانون.
لا بد -إذاً- أن نعترف بأن الفساد يعادل الإرهاب فى محاولة إفشال الدولة.. وأن تطبيق قانون مخالفات المبانى سيكشف أوراقاً كثيرة عن مافيا الفساد.. لكنه أيضاً ستكون له «آثار جانبية» يجب تلافيها.
نعم، سيكون لدينا «ضحايا» لتطبيق القانون، والضحية يجب احتضانه حتى لا يختطفه العدو ويحوله إلى قنبلة موقوتة.
نقلا عن الوطن