الأنبا إرميا
قبل أيام قليلة، احتفلت «الكنيسة القبطية الأُرثوذُكسية» ببَدء عام جديد للشهداء (التقويم القبطى)، المسمى بـ«عيد النَّيْروز». يرتبط «عيد النَّيْروز» بأحقاب مريعة عاشها المَسيحيُّون عمومًا، وأقباط «مِصر»، حيث جاءت أقساها بعصور الحكم الرومانى المعروفة بـ«حلقات الاضطهاد العشْر»، التى بدأت مع الإمبراطور «نيرون»، وانفجرت ذُِروتها عصرى الإمبراطورين «دِقْلِدْيانوس» و«مَكْسِميانوس»، لتهدأ فى أيام الإمبراطور «قُسْطَنْطِين»، لٰكنها لم تتوقف أبدًا، مخلفةً شهداء لا يُحصَون، وبالأخص «مِصر» التى ذُكر عن شهدائها: «لو أن شهداء العالم كله وُضعوا فى كِفة ميزان، وشهداء «مِصر» فى الكِفة الأخرى، لرجَحت كِفة المِصريِّين»!!
لذٰلك اتخذ الأقباط بداية عصر «دِقْلِدْيانوس» (305-284م) بدءًا للتقويم القبطى وتأريخًا للأحداث، وسمَوه «تاريخ الشهداء» لكِثرة دماء الشهداء المسفوكة فيه؛ وقد ذكر المؤرخ «المقريزى» عنه: «وأوقع بالنصارى فأسال دماءهم، وغلَّق كنائسهم، ومنع من دين النصارى، وحمَل على الرِّدة وعبادة الأصنام، وأسرف جدًّا فى قتل النصارى، وهو آخر من عبد الأصنام من ملوك الروم».
الاستشهاد
لا يُعد الاستشهاد أمرًا غريبًا؛ إذ قال السيد المسيح: «وقبل هٰذا كله يُلقون أيديهم عليكم ويطردونكم ويسلِّمونكم إلى مجامع وسجون، وتُساقون أمام ملوك ووُلاة لأجل اسمى. فيؤول ذٰلك لكم شَهادة. فضعوا فى قلوبكم ألا تهتموا من قبل لكى تحتجوا، لأنى أنا أعطيكم فمًا وحكمة لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها. وسوف تسلَّمون من الوالدِين والإخوة والأقرباء والأصدقاء، ويقتُلون منكم. وتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمى. ولٰكنّ شعرة من رُؤوسكم لا تَهلِك. بصبركم اقتنوا أنفسكم».
لقد ثبّت الشهداء أنظارهم فى الحياة الأبدية، وفضّلوا أن يعيشوا غرباء بالعالم، منتظرين عودتهم إلى وطنهم السمائى؛ فاحتملوا آلامًا وحشية فوق الوصف بصبر وجلَد، وعاشوا حياة الزهد غير راغبين امتلاك أى شىء من هٰذا العالم، مؤمنين أنه أفقر من أن يهب لهم أى باقيات.
وقد ارتبط الاستشهاد فى «المَسيحية» بالمحبة الشديدة لله؛ فقدم الشهداء حياتهم فرحين!! نعم، فـ«القديس بُولِيكاربوس» يخاطب الحاكم الذى أمره أن يُنكر إيمانه ويَجحَد سيده المسيح: «لقد مضت ستة وثمانون عامًا أخدُِم فيها المسيح، وشرًّا لم يفعل معى قطّ، بل أقتبل منه كل يوم نعمًا جديدة؛ فكيف أُهين حافظى والمحسن إلىّ؟!!» وكتب «القديس إغناطيوس الأنطاكىّ» رسالة إلى مؤمنى «رومية» حين بلغه أنهم يستعدون لإنقاذه من الموت: «أخشى أن تظلمنى محبتكم!!... إننى ذاهب بملء رضاى إلى الموت لأجل الله، راجيًا ألا تقفوا عائقًا فى سبيلى!! أتوسل لكم ألا تكون شفقتكم فى غير وقتها المناسب!!».
وارتبط الاستشهاد بإيمان عميق لا يهتز، وبشجاعة أمام الموت نادرة أذهلت الجميع، متسلحة بقوة كلمات السيد المسيح: «لا تخافوا من الذين يقتُلون الجسد، وبعد ذٰلك ليس لهم ما يفعلون أكثر. بل أُريكم ممن تخافون: خافوا من الذى بعدما يقتُل، له سلطان أن يُلقى فى جَهنم. نعم، أقول لكم: من هٰذا خافوا!». احتمال فريد عجيب قدمه الشهداء فى مشاهد رائعة بَهَرت أعداءهم!
ومع شدة الآلام التى مرت بالشهداء، فإنهم لم يفقدوا حياة الوداعة التى ميزتهم؛ فلم يتمردوا ولم يثيروا شغبًا، ولا قاتلوا معذبيهم، بل على العكس: دافعوا عن إيمانهم بوداعة حقيقية. ومن المواقف التاريخية لوداعة الشهداء، رسالة «الكتيبة الطِّيبية» إلى إمبراطورها: «أيها القيصر العظيم: إننا جُنودك، لٰكن فى الوقت نفسه عبيد الله... لسنا ثوارًا، فالأسلحة لدينا، وبها نستطيع أن ندافع عن أنفسنا ونعصاك، لٰكننا نفضل أن نموت أبرياء على أن نعيش ملوَّثين»! كانوا جبابرة بأس وُدعاء!! كل عام وأنتم بخير، و... وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم
