عادل نعمان
وصلنا معا فى المقالات السابقة إلى أن تحصين الأديان من المنتفعين واجب إنسانى وحتمى، حفاظا عليها من الاستغلال، وحفظا للناس من سطوتها ونفوذها، وصونا لها من التشكيك والإنكار، فما هب طامع وما دب منتفع أبواب ديارها إلا ووجد ضالته عندها، وما خرج غاز ولاناهب ولاباغ إلا وجد غايته مجابة ومباحة ومباركة، ولأن السياسة والحكام هما الداء فقد وجب استبعاد الدين وعزله عنهما فى دور عبادته، وقلنا نحن لانملك قوة ولابأسا، ولا نملك سيفا ولا حبلا نتسلق الجدران لننقذه من سجنه، ونعود به إلى دياره ومستقره، لانملك سوى ورقا وقلما وأدلة وبراهين على نجاح العلمانية'> العلمانية وتفوقها. نعم وهذه حقيقة شاخصة أمام الجميع، ماسلكت دولة هذا المسلك إلا ونجحت وتفوقت، وما انتهجت دولة منهج الحكم الدينى إلا ورسخ الشقاق والخلاف والقتال بينهم وبين وأصحاب الأديان الأخرى، وبينهم وبين أصحاب المذاهب من نفس الدين.
نشأة العلمانية'> العلمانية فى أوروبا: الصراع كان قاسيا ومريرا لزمن طويل عانى منه الغرب تحت سيطرة رجال الدين المسيحى فى أوروبا، وكأن هذا بالطبع لصيق الصلة بالدين، فهو الوسيلة والسبيل، حتى أضحت الكنيسة مصدرا للظلم والجهل والخرافة والدجل والشعوذة وعلى رأسها صكوك الغفران، وأصبح رجال الدين عبئا ثقيلا على الناس، وأحد الأدوات القاسية والظالمة فى يد الإقطاع والإقطاعيين واستغلال العامة من الناس وتسخيرهم، واتهمت الكنيسة كل من يخالفها الرأى بالهرطقة «الكفر» فظهرت العلمانية'> العلمانية كحركة تمرد على سلطة الكنيسة وإبعادها عن سلطة الحكم وسطوة الإقطاعيين، وليس هناك فارق يذكر بين ماعاشته أوروبا فى العصور الوسطى وسيطرة المؤسسات الدينية عما يعيشه الناس هنا وهناك فى الدول الإسلامية من سيطرة رجال الدين الرسميين والشعبويين على العقول، واليد الطولى فى يد الحكام لقمع شعوبهم، وهى نفس الظروف التى دفعت الغرب إلى التغيير وتبنى العلمانية'> العلمانية منهج حياة.
والعلمانية ليست كما روجوا لها ووصموها به، دين جديد يدعوا للفجور ويروج للإباحية وزواج المثليين، كما كان نصيب الديمقراطية والحنفية والقهوة والدرجة من التنكيل والتكفير والعار، والعلمانية ليست كذلك، وليست دين من الأديان، لكنها منهج حكم وسبيل عمل وعلم، وهى على العموم ملخصها «مصطلح علمانية» بفتح العين «ليست له علاقة بالعلوم»، فصل ماهو دنيوى «عالم» عما هو روحى «دينى» وإبعاد السلطة السياسية والدولة ومؤسساتها عن السلطة الدينية، توجه المجتمع يكون ناحية الأمور المادية للحياة على أرض الواقع بعيدا عن الأمور الغيبية للأديان، قرارات وقوانين وأنظمة الدولة قائمة على تلبية احتياجات الناس.
عدم تبنى الدولة لدين معين كالدين الرسمى للدولة، ليست ضد الأديان، لكنها تقف على الحياد منها جميعا وعلى مسافة واحدة، لاترفع دينا للأغلبية أو تبخس دينا للأقلية، حرية ممارسة الشعائر والطقوس والمعتقدات الدينية، المساواة بين الجميع دون تمييز على أساس دين أو جنس أو لون، وفى هذا تعريف جيد لجون هوليوك (العلمانية هى إمكانية الإصلاح وتغيير حال الناس إلى الأفضل من خلال الأمور المادية «العلم والقانون» دون اللجوء للأديان بالقبول أو الرفض) باختصار هى ليست دعوة للإلحاد أو تزكيته، بل هى دعوة لفصل الدين عن الدولة، واعتباره علاقة خاصة بين الإنسان وما يعبد» فحافظت على الأديان كلها، وضمنت استمرارها وعدم طغيان دين على الآخر، أو تغول دين الأكثرية على أديان الأقلية، فحين ترى رجلا يصلى فى نهر الطريق فى دولة من الدول، أو مجموعة قد افترشت الميادين للصلاة، وأعاقت حركة المرور، دون تدخل أو ازدراء أو منع من أحد، فهذا ليس انتصارا للدين وليست غزوة من الغزوات، بل هو انتصار للعلمانية التى أسست لحرية العبادة دون اعتداء أومنع، وإذا رأيت فى دولة من يمنع أصحاب الأديان الأخرى من إقامة شعائرهم الدينية أو صلاتهم ودخول كنائسهم أو ادريتهم، فاعلم انه ليس هزيمة لهذه الأديان، أو إندثارها، بل هو فشل الدولة الدينية، وخروجها على قيم العدل والإنسانية، واعتداء صارخ على حقوق الغير.
وليست بطولة من الأغلبية أن تصد الأقلية فى بلادها عن ممارسة شعائرها، خصوصا إذا وقفت أجهزة الدولة خلف الجدران ترقب والابتسامة تعلو شفتيها، كمن يقتسم الغنائم مع القراصنة، وهو أمر سهل وبسيط، فقطاع الطرق يصنعون ذلك بسهولة ويسر، إلا أن هذا لا يرتقى لمستوى الدولة فى مفهومها العصرى السياسى، والأكثر أهمية أن الحفاظ على الدين واختباره وامتحانه لا يكون إلا فى جو من الحوار والجدال الحر، فلا خوف على دين من عند الله حافظا له وباقيا عليه بقاء الدنيا حتى الآخرة، حين يتفاعل مع الحياة والأديان الأخرى، الخوف كل الخوف من تحريفه وتبديله فيكون المنع والعزل والحبس هى السبيل لبقاء واستمرار مصالح المنتفعين.
نقلا عن المصرى اليوم