عزة كامل
العبيط، الأبله، المجذوب، الدرويش.. كلها أسماء لنموذج واحد، وهو الشخص غريب الأطوار الذى يتبرك به الناس، لأنه يعرف أشياء لا يستطيع أحد غيره معرفتها، فيرونه وليًا من أولياء الله، لكن هذا لا يمنعهم من السخرية منه والتهكم عليه، ولا تخلو قرية مصرية من هذا الشخص.
هذه الشخصية ألهمت، ومازالت تلهم وتثير مخيلة الأدباء فى شتى أنحاء العالم، فى رسم شخصياتهم، وفى الأدب العالمى سنجد «دون كيشوت»، و«هاملت»، و«فاوست»، و«الأبله»، وهى نماذج إنسانية كبرى ومعقدة تم إبداعها، وشخصية «دون كيشوت» - مثلا - أبدعها الكاتب الإسبانى «سرفانتس»، وهى المثل الأعلى الذى يسعى لتحقيق الخير، ويطمح ليكون صوته هو صوت للعدالة فى وسط عالم حافل بالوضاعة والظلم، لكن تُعوزه الوسائل القادرة على تحقيق ذلك، فيعجز عن تحقيق سعيه، لقد سخر من رجال الدين أدعياء الحكمة، وذوى النفوذ، وسخر من الجماعات الأدبية وما يسودها من تملق ونفاق وصراع ووضاعة، وتهكم على المتملقين ولاعقى الأحذية والفاسدين، خاض «دون كيشوت» مغامراته واستمر فيها رغم فشله فيها، إلا أنه كان مع كل فشل يزداد إصرارًا على خوض مغامرة جديدة، ودارت بينه وبين فارس آخر معركة انهزم فيها، فمرض ولازمته الحُمّى، وعندما شفى وعاد إليه عقله هاجمه الموت، لأنه لم يستطع التعايش بدون جنونه، وبعد أن اكتشف أن القتال من أجل الخير والعدل هو قتال مع طواحين الهواء، مات «دون كيشوت» فى الرواية، ولكنه لم يمت فى عقول الأجيال المتعاقبة التى تسعى لتحقيق العدالة إلى الآن.
وقد ألهمت هذه الرواية الكاتب العظيم «ديستوفسكى» ليكتب رائعته «الأبله»، أراد ديستوفسكى أن يقدم مثلا أعلى يراه الجميع، ويؤمنون به، فقدم شخصية الأمير«ميشكين»، الفارس والمناضل من أجل العدالة، ورغم سخرية الجميع منه وضحكه هو شخصيا على نفسه، إلا أن دائمًا شفتيه كانتا تنطقان بالحقيقة.
لقد أراد ديستوفسكى أن يظهر التناقض بين القيم المثالية التى توصلت إليها البشرية وتصوراتها عن العدالة والخير، وبين العلاقات الحقيقية بين البشر، والتى تؤطرها التحيزات والحسابات والثروة والنفوذ.. يقود ديستوفسكى بطله «ميشكين» الورع عبر محنٍ كثيرة.. لكن هل يمكن للإنسان الورع أن يعيش فى هذا المجتمع الفاسد؟ ودائما ما تكون الإجابة «لا» لأن ميشكين يستسلم، لكنه أثار الفزع والارتباك فى المجتمع، وجعل أفراده يقفون أمام حقيقتهم وحياتهم وعقولهم الفاسدة، وكم تدهشنا قدرة هذا الأبله على فهم جوانب الضعف فى النفس البشرية، وكافة التناقضات التى تمزق هذه النفس!.
نقلا عن المصرى اليوم