عاطف بشاي
تحظى شخصية «الأب» فى الآداب والفنون فى العالم وعلى مر العصور بمكانة هامة كبطل يحرك الأحداث ويطورها، وينشأ الصراع الدرامى الذى يشكل فى النهاية مضمون العمل ومغزاه.. ربما منذ مسرحية «الملك لير» لشكسبير والتى تم اقتباسها أو استلهامها فى صياغات لأفلام متعددة سواء فى السينما العالمية أو المصرية، ومنها فيلم «حكمت المحكمة» بطولة «فريد شوقى» حينما قرر تحويل مسار أفلامه من جبروت وحش الشاشة إلى تجسيد أدوار الأب المحب الودود الذى ينحاز للخير.. ويحمل بين جنباته قلباً رقيقاً فياضاً بالعطاء والحنان والاحتواء والتضحية.. وبدأها بفيلم «ومضى قطار العمر» وتوالت بعدها الأفلام فى هذا الاتجاه مثل «لا تبكى يا حبيب العمر» و«يا رب ولد» و«بالوالدين إحساناً».
«كيف يمكن لفيلم سينمائى أن يزلزلك، ويطرد من داخلك القلق والعنف والكراهية.. ليستقر بك على شاطئ نظيف.. مغسولاً متطهراً.. ينمو فى داخلك الحب والخير والسلام.. إنه فن السينما العظيم»
السطور السابقة كتبها الناقد الكبير «رءوف توفيق» فى مقدمة لعرضه وتحليله لفيلم «كلهم بخير» فى كتابه البديع «سينما المشاعر الجميلة».. الفيلم للمخرج الإيطالى «جوزيبى نور نتور» وموضوعه عن «الأب» الذى يجسد شخصيته النجم الإيطالى الشهير «ماسترو يانى».. إنه عجوز وحيد.. ماتت زوجته وخرج إلى المعاش بعد مدة خدمة طويلة عمل فيها موظفاً بسيطاً فى صقلية.. وله خمسة أولاد.. كبروا وعملوا فى مدن مختلفة.. يشتاق إليهم كثيراً.. ويقرر أن يسافر إليهم ليزورهم..
يصل إلى «نابولى» حيث يعيش ابنه الأكبر.. يذهب إلى منزله.. يرن الجرس.. لا أحد يرد عليه.. يسرع إلى مكان عمله لا يجده ويعرف أنه فى إجازة غير معلوم ميعاد عودته.. يواصل الاتصال به تليفونياً بلا جدوى.. يضطر إلى المبيت فى فندق قديم.. وفى الصباح يعاود الاتصال.. لا فائدة.. لا أحد يرد عليه.. يترك له رسالة على «الأنسر ماشين»..
ويواصل الأب الرحلة إلى روما. ويلتقى بابنه الثانى.. ويفخر كثيراً أن يبدو ابنه فى حديثه معه ذا الصبغة السياسية ما يفهم منه أنه أصبح ذا شأن كبير فى الدولة، وأنه عضو بارز فى البرلمان.. ويصر أن يذهب معه للبرلمان ليسعد برؤيته وهو يتحدث إلى الأعضاء.. فيكتشف الحقيقة المؤلمة.. أن الابن يسلم خطبة كتبها لعضو فى البرلمان.. فهو ليس سوى موظف صغير يتم استخدامه لكتابة الخطب السياسية..
يواصل الأب رحلته.. ويذهب للقاء ابنته.. يفاجأ بطفل صغير معها. تدعى أنه ابن جارتها التى تتركه لها عند غيابها.. أما هى فتعمل عارضة أزياء وموديل عار للإعلانات.. يكتشف الأب أن الطفل ابنها هى.. ويحس أن وجوده يمثل حرجاً لها وعبئاً عليها.. يمضى تاركاً إياها.
يذهب إلى حيث يعمل ابنه الرابع عازفاً على الطبلة فى فرقة موسيقية.. والذى يبدو غير سعيد بعمله.. لكنه يدعى العكس عند الحديث مع أبيه.. يلتقى الأب حفيده الذى لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً.. يصدمه أن فتاته قد حملت منه..
يرحل الأب آسفاً إلى حيث ابنته الخامسة التى تسرع عندما عرفت مسبقاً من شقيقها بخبر قدوم الأب.. وتضغط على زوجها المنفصل عنها ليحضر للقاء للأب... ولا يفصح عن انفصالهما.. يفتعلان الود المتبادل بينهما فى وجود الأب.. لكن فى الليل يسمع فى حجرته وهو يتأهب للنوم أصواتاً تتشاجر، بينما الزوج يسألها فى سخط وانفعال لماذا نمثل السعادة.. ترد هى: «لأنه جاء ليطمئن علينا» يهتف فى انفعال: «لابد أن ننفصل.. ليست هذه حياة».. يصدم الأب.. يتسلل منصرفاً من المنزل..
يعود إلى مدينته الصغيرة.. وقد استولت عليه الأحزان.. أن كل الأبناء يكذبون إشفاقاً عليه من مواجهته بالحقيقة.. لقد أصبح الكذب المنمق أجمل من الصدق المر.. يبدو الفيلم كقصيد شجية مفعمة بالأسى والمرارة.. وقد نسجت تفاصيل مشاهده الشفيفة الآسرة ببراعة لتؤكد – بتعبير الناقد الأريب – أن الصور اللامعة تخفى خلفها حقائق مذهلة. وأن إيقاع العصر الكاذب.. يطحن المشاعر والعلاقات.. فلا يبقى فى النهاية سوى الحسرة على ماض رومانسى براق.. ودفء عاطفى وإنسانى مفقود.
نقلا عن المصرى اليوم