مدحت بشاي
medhatbeshay9@gmail.com
قالوا كثيراً عن الموت ، وصفحات التراث الإنساني والديني والأسطوري حافلة بالعديد من التعريفات لمفهوم الموت ودلالات الحدث باعتباره أحد أهم الحقائق المطلقة التي تداهم الناس بأشكال وصيغ مختلفة تتنوع رؤيتهم للموت والتفاعل معه وفق ثقافات وحضارات كل شعب يتراكم لديه موروثات من الحكمة والفلسفة والتأمل الروحي النبيل ..
في تراث المواطن الإنجليزي يقول المثل المتداول " إن الموت يهزأ بالطبيب والموت هو القادر أن يسوي بين الناس لأن الموت والقبر لايميزان بين الأشخاص ، أما المواطن الهندي فيرى أن الحياة تستمد قيمتها من الموت ، والياباني يقرر أن الموت أكبر من أي جبل ، وأصغر من أي شعرة في آن معاً ، والتركي يؤكد أن الموت جمل يركع أمام كل الأبواب وفي أمثالنا المصرية "قالوا الجنازه حاره ، كل واحد بينعى همه" و" إيش حال مريضكم ، قال قوينا مات " و" إللى ما يبكى على فى الحى وانا سامعه ، ساعة الممات يوفر مدامعه "..
وفي النهاية أجدني أتوقف عند قول الإمام الغزالي "عش ما شئت فأنت ميت ، وأحبب من شئت فأنت مفارقه ، وأعمل ما شئت فأنت مجزي به " وتأسرني مقولة الحسن بن علي "يا ابن آدم ، إنما أنت عدد ، فإذا مضى يومك فقد مضى بعضك " ..
نعم نحن في النهاية أعداد وأرقام تضاف إلى دنيا الوجود عند الميلاد ، ويتم حذفها بمجرد الموت .. لقد عشت عن كثب حذف بعض أهم وأعز تلك الأرقام في حياتي في مواجهات حزينة وأحيانا صادمة ، ولا أعرف إذا كان ذلك من قبيل الصدف وهدايا القدر الصعبة أم ماذا أن أشهد وحدي تلك اللحظات الفارقة بين الموت والحياة لأربعة هم أعز من أحببت .. جدتي لأبي و جدتي لأمي وأمي ، وأخيرا مشهد اللحظة الأشد قسوة عندما ودع أبي الحياة علي فراش المرض بإحدى المستشفيات الكبرى منذ 12 سنة في مثل هذه الأيام ، ليس فقط لأبوته الحانية الرائعة ، ولا لأنه كان يعيش معي بعد رحيل الأم 15 سنة حتى بلغ عمره 90سنة هي الأروع في حياتي ، وإنما أيضاً لما يمثله لي من قيمة إنسانية بديعة نبيلة متسامحة مع الدنيا بأسرها ..
عندما سلمت والدي لأطباء المستشفى بعد غيبوبة توهته عن كل الأحباب صار بالنسبة لهم حالة تحمل رقم الغرفة 915 .. وعلى الفراش المقابل للحالة كان مكان المرافق ، و القائم بالرعاية اللحظية التي تبادلتها مع زوجتي الطيبة الرائعة..
وعلى طريقة القطع المتداخل للمشاهد كما يطلقون عليه في عالم السينما ما بين فعلين دراميين متوازيين زمنيا ويوحي بعلاقة بينهما كنت أرقب حال والدي المريض وفي كل مرة يحدث استقرار نسبي يذهب الخيال بي إلى دنيا المريض الحية الرائعة السابقة في مشاهد تتقاطع على التوازي ..
• يتحلق حولي وأنا طفل مجموعة من الأطفال يضحكون وهم يقلدونني في سخرية قاسية وأنا أنطق حرف السين خاء في كل كلامي .. يفاجأ الأب بالمشهد فيقترب مني حانياً ماسحاً دموعي ويعود بي مسرعا إلى البيت ليعكف على محاولة إصلاح خلل النطق باقتراح أن أنطق حرف السين ثاء مع طلب أن أخرج لساني وتنجح المحاولة ويراها الأب انتصارا ، وبالتدريج وبإصرار تبدلت الثاء بالسين وعندها قال لي نادي على أختك سهير فكان النطق السليم وفرحة الأب الطيب دونما توجه لمتخصصين في علوم التخاطب والاكتفاء بالحب والسماحة التي حرص أن تظلل البيت كل الوقت فهي الشافية المعالجة لكل الأسقام ..
• الطبيب يقرأ نتائج التحاليل اليومية مبشراً إياي لقد نجحنا في رفع نسب الصوديوم والبوتاسيوم نسبياً ..
• في حفل زفاف خالتي الطيبة أتابع وأنا الطفل الصغير أبي بفخر وسعادة وهو يقف مهنئا منشدا بعض من أزجالة البديعة .. كل الحمام لفاف دوار / لما الأليف يلقى أليفه
بعد التعب من كام مشوار / بيحط وينزل على كيفه
• يسألني الطبيب منذ متى غاب أبوكم عن وعيه بكم على هذه الصورة ؟
• الوالد يصطحب أخي الأكبر إلى يوسف بك وهبي لدعمه لدخول معهد السينما رغم إيمانه الشديد بموهبة الإبن وعدم الاحتياج إلى أي تزكية ..
• مجموعة من الأطباء حول فراش والدي المريض ويقول لي أحدهم " إنت إبن الحالة ؟ ويستطرد النهاردة جلسة غسيل للكلى ..نعم صرت في كل ردهات المستشفى " ابن الحالة 915 ".
• الوالد يذكرني كيف كانت أمي رحمها الله تحبني ، فاكر مشروع تخرجك في كلية الفنون وازاي جمعت أجزاء اللوحة الورقية الضخمة على الأرض ، ولم تنم 36 ساعة حتى انتهت من تخريم كل خطوط الرسوم المحددة للتصميم بدبوس إبرة .. ملايين الخروم حتى يسهل عليك عملية طبع التصميم الجداري على الحائط وهو المشروع اللى كان السبب في حصولك على الترتيب الأول في البكالوريوس ..
• الطبيب يتابع الوالد وينظر إلي مطمئناً هناك تحسن ما .. يخرج الطبيب وأربت على جسد والدي الطيب مطمئنا وأنا لا أعرف إذا كان يسمعني أم لا ..وفي مفاجأة صادمة ألحظ توقف التنفس فألحق بالطبيب ليعود ويقرر وداع الحياة للحالة 915 ..
• منذ رحيل الأب وافق د. محمد الباز على أن يكون عمودي الأسبوعي بجريدتنا الرائعة " الدستور " بمسمى " بشائيات " بكل مشاعر طيبة أحفظها له بالتأكيد ..
" طوبى للأموات الذين يموتون في في رضا الرب يقول الروح :
فليستريحوا منذ اليوم من المتاعب ، لأن أعمالهم تصحبهم "
نقلا عن الدستور