سحر الجعارة
(وهى تبتعد عن المرآة، لمح ظل وجهها على الحائط، ظل برهة يدقق فيه، تذكّر فجأة أنه قد مرت عليه أثناء دراسته لوحة مشابهة. كانت عن فتاة ترسم ظل حبيبها بطرف عصا مفحمة على شاهد أحد القبور، ومثلما فعلت الفتاة مع ظل بروفايل حبيبها، رغب حليم بشدة أن يرسم كل تفصيلة لظل وجدان على الجدار).
هكذا أراد الكاتب الروائى الكبير «صخر صدقى» أن تظل حقيقة أبطال روايته الأخيرة «وأين اللمسة» مصلوبة على جدران قابلة للخدش والسقوط، بينما هم يفتشون عن حيواتهم الضائعة فى الظلال!.
1 - «على مذبح الحرية»: «وجدان» لم تعد هى تلك الطفلة المفعمة بالحيوية الضحوك، حين تعرّت أمام «حليم» هرباً من سيطرة العقل، كانت تكشف جرحها «بطنها المترهل» ثمن الحمل الذى كان ثمرته طفل ميت، فلم يتبقَّ من زواجها إلا «كفن» أحياناً تستخدمه لتعلن استقلاليتها عن سطوة الأسرة والأم، وتخرج للمجتمع «مذيعة» تناقش «زواج القاصرات»، وفى أحيان أخرى تختبئ بداخله هرباً من مجتمع مناهض للنساء!
«صباح» على العكس منها، استسلمت لعملية وأد أنوثتها، كان والدها يغتال جمالها: (بعد الختان تركها تنزف، فى سن البلوغ فرض عليها شد صدرها بشريط قماش، وحرمها من التعليم لاستغلالها فى كسب العيش).. لم تجرؤ «صباح» التى فتنت الجميع بحزنها أن تخرج من بين كراكيب أمها الراحلة، إن روحها لا تزال تسكن هذا الكوخ البعيد.. ولم تستطع أن تمنح زوجها «روشة» نفسها، لقد جدلت ساقيها وتخشبت مثل جثة فارقتها الروح ولم تعد!.
وما بين النقيضين تقف «ثريا».. بنت جادة تحب الشعر والقراءة، سر جاذبيتها فى بساطتها، تنتظر وعداً بلا موعد من «حليم»، وتستوعب تقلبات حياتها بنعومة من القرية إلى المدينة.. وحين يضبطها حليم مشوهة بأصباغ المدينة تخلع العدسات الملونة فوراً لأنها تراهن على «لمسة».
هكذا رسم الكاتب المبدع «صدقى» ملامح بطلاته بريشة ساحرة، (لاحظ أنه فنان تشكيلى أيضاً)، وكأنها أوتار مشدودة توشك أن تتمزق!.
2 - «ظل فنان»: كان «حليم» ضائعاً بين حلمه وواقعه، إنه ابن «بدر الخواجة» صاحب معمل الألبان، يدرس فى كلية الفنون الجميلة، لا يستطيع أن يهبط إلى الأرض ليدير معمل والده «فى القرية»، ولا يملك أن يطير ليعانق حلمه ويصبح فناناً مشهوراً. فى صباه انفصل والده عن العمل مع «موسى» والد «وجدان» بعد تنافسهما على حب امرأة واحدة خارج حياتهما الأسرية.. ولأنه منطوٍ وخجول كانت وجدان صديقة طفولته: (تحسسا معاً أجزاء من جسديهما بفضول طفولى علناً وسراً، كانت رغباتهما تتوقف عند حدود معينة بدون أن يبذل أى منهما جهداً يُذكر لكبحها).
فى طريق ذهابه إلى منزل «وجدان» عبر دروب القرية القاسية، هاجمه بعض الشباب، بالسخرية اللاذعة والضرب «الأليط ابن الخواجة»، حتى انشقت الأرض عن «روشة وكلابه» وبعدما أنقذه تعارفا.. «روشة» لا يخجل من لقبه، (بمفهومهم من شط عقله)، إنه فوضوى واللقب يحرره.. تبادلا الحديث حول علاقة كل منهما بوجدان، جرأة «روشة» تتجاوز الوقاحة: (ألم تجرب معها لغة اللحم).. وكأن النقيضين يكملان بعضهما البعض!!.
إنه المجتمع الذى صنع لكل إنسان جسده وظله، وتقاطعت خيوط الحياة فى لوحة سيريالية رسمها «صدقى» ببراعة من يشير إلى أن «الحلم على مرمى البصر».
كان الجنس حاضراً فى خلفية المشهد، وكأنه محفز لحركة الأحداث: المعمل يدور، الفلاحون يترددون لبيع ألبانهم، عيون حليم تصافح حياء صباح، يبحث عنها يتلصص عليها خلسة، حتى يكتشف أن «روشة» ابن الجزار ينوى أن يتزوجها.. سقط حليم فى ظل «روشة» وتبدلت الأماكن، أصبح هو مرشده لفهم عالم القرية وموسوعته الخاصة!.
3- «اللمسة وعد»: أحس حليم بالدف والود حين عرف ثريا: (كان كلما تهيّج إحساسه بها يكبّل يده حتى لا تتهور وتلمسها، يتمعن فى كلمات بدر» لا تعد فتاه بما لا تقدر على الوفاء به، لمسة اليد وعد، ونظرة الوله وعد»).
وتزوّج «روشة» من «صباح» فى احتفال كرنفالى أشبه بالاختطاف.. كانت العروس مستلبة -كعادتها- رافقته خائفة حتى من إكليل الزهور الصناعى.. تزوجها «على الورق» وأقنع نفسه أنه لم يحبها ليغزو جسدها!.
أصبح «روشة» مديراً لمعمل الألبان، وحاول أن يطور منظومة العمل بانقلاب إصلاحى، لكن «بدر» رفض الخضوع.. فسلّمه «روشة» لمفتش صحة «نظيف اليد».. وترك العمل. كان لدية مهمة أخرى: «قائمة التأديب»، التى بدأت بالشيخ «سعيد» وكان مجرد تاجر مشعوذ وإمام مسجد كاره للمسيحيين، فلطّخ جدران منزله بالدماء وكتب: (دماء ضحايا فتاويك يا سيدنا).. قائمة التأديب التى انتهت بـ«العمدة» دفعته لتأديب «روشة» وكلبه، فعلقه من ساقيه مقلوباً على جذع شجرة كافور، ولم يكتفِ بالضرب والركلات، بل هتك عرضه على الملأ.
4 - «لوحة بدور»: يعانق الألم معاناة «حليم» وهو يبحث عن نفسه، عن لمسته الخاصة، لقد ربح كثيراً من استنساخ اللوحات العالمية الشهيرة، لكن الأب حذّره قبل أن يموت: «سوف تقضى على نزعة الخلق لديك والتى تميزك كفنان».. أدرك أن «اللمسة» التى قصدها والده لا تأتى إلا بعاطفة قوية وبشغف حقيقى.. فقرر أن يخلّده بلوحة تنطق بقسماته حياً.. اشتهرت لوحة «بدور» وفازت بالجائزة الأولى فى معرض دولى بإيطاليا.
كانت «وجدان» تحلم بأن تتجدد «خلايا الرحم الممزقة».. وعلى شاطئ الإسكندرية يولد حب جديد بضمة قوية بمثابة «وعد» لثريا.. وزوجة- عذراء تسمح لدمعتها بأن تغسل عيونها لترى «النور».. أخيراً أدرك كل جسد ظله بلمسة.
نقلا عن الوطن