د. محمود العلايلي
إلحاقًا بمقال الأسبوع الماضى بعنوان «التصالح وأشياء أخرى»، لأن الحقيقة أن ما يشغل المواطن ليس التصالح فى ذاته ولكن مجموعة تلك الأشياء الأخرى، والأشياء الأخرى هى ما يمكن أن نلخصه فى القلق، أو بمعنى آخر الشك، أو بمعنى ثالث فى عدم استشراف الغد بطريقة واضحة، فالمواطن لا يدرى إلى أى مدى ستظل القوانين المنظمة لحياته سارية، ولذلك لا يستطيع أن يخطط لحياته على المدى الطويل، فالمواطن لا يدرى إذا كان من الأفضل له أن يشترى مسكنا أو أن يستأجره لأنه لا يعلم يقينا إن كانت الضرائب العقارية ستظل على حالها أو سوف يصيبها التغيير، وإذا اشترى فهل تظل ضريبة التصرفات العقارية فى حالة البيع بنفس القيمة أم تزيد أو تقل، أما إذا قرر الاستئجار فهل يتيح له ذلك الحل سكنا مستقرا آمنا لفترة معقولة، أم تتبدل القوانين مرة لصالح المالك ومرة لصالح المستأجر، مما قد يقلب نظام حياته دون أن يكون قد حسب حسبة ذلك مسبقا، أما إذا قرر الشراء فهل يشترى نقدا أم يتبع نظاما للتقسيط مع المطور العقارى أم يلجأ إلى قرض من البنك، وهو ما قد يتبدل حاله فى حالة زيادة أو انخفاض سعر الفائدة بشكل مؤثر أو فى حالة طرح منتجات بنكية جديدة لمستهلكين جدد يكون قد فاتت فرصته فيها.
وليست الفقرة السابقة إلا مثالا لحيرة مواطن بسبب حالة عدم اليقين، ويتساوى الحال فى حالة تخطيط المواطن لتعليم أولاده، أو الدخول فى عمل يستدعى الاستثمار، أو وضع خطة صحية معينة، أو الاستقرار على آلية مواصلاته سواء باستخدام المواصلات العامة أو باقتناء وسيلة خاصة لا يعلم على وجه الوضوح إن كانت قوانين المرور ستستمر كما هى أو إن كانت الضرائب أو الجمارك المفروضة على السيارات ستتعرض للزيادة أم لا فى الوقت القريب.
لا يعنى ما سبق أن ندعو إلى قوانين جامدة لا تتغير مع الزمن، ولكن ما نريده حقا هو منظومة قوانين مجردة لا تتعرض للتغيير لأسباب موسمية، وإنما تغيرها المصلحة المستقبلية دون أن تتعارض مع المصالح الآنية للمواطنين بما يعرضهم للأذى، أو على الأقل أن يكون التأثير فى أضيق الحدود التى يمكن معها تدارك الأذى أو تعويض الخسارة، ولكن هل هذا قابل للتحقيق فى إطار التركيبة السياسية القائمة فى ظل غياب التوجه السياسى، وهى مسألة لا يجب التعامل معها بتباسط، حيث لا يمكننا أن نحدد بشكل واضح توجهات الحكومة أو توجهات مجلسى النواب أو الشيوخ المنوط بهما إصدار التشريعات، لأنه لا يمكن لأحد بالتقريب أن يشير لعدد الاشتراكيين فى هذه المجالس ولا عدد الليبراليين ولا المحافظين أو الشيوعيين، وهى مسائل لا تؤخذ على محمل التباسط حيث يكتفى أغلب هؤلاء السياسيين بوصف نفسه بأنه «مساند للدولة» وهو وصف غير كاف لندرك موقفه الذى على أساسه يساند الدولة أو يوجهها بحكم موقعه، بحيث نعلم إلى أى مدى يتبنى حرية الاقتصاد والسياسة والإعلام، أو لأى مدى يتبنى تدخل الدولة فى التأثير على الاقتصاد وتوجيهه، والتحكم فى الإعلام والسيطرة عليه، لأن التشريعات الصادرة من خلفية اشتراكية قد لا تتفق مع مثيلتها من خلفية رأسمالية، لأن زيادة الضرائب أو خفضها- مثلا- لا تنحصر فى كونها دخلا للدولة، وإنما منظومة اقتصادية متكاملة تعتمد عليها حركة التجارة والتنافس وخلق فرص العمل وتكافؤ الفرص وقوانين العمل، والأهم أن بعض هذه التشريعات قد تتناقض مع تشريعات أخرى فى نفس المجال وهو ما يخلق حالة من التخبط والخلط أحيانا، كما يشكل وضعًا من الشك أحيانًا أخرى، ولكنه يشكل وضعية دائمة من عدم اليقين تؤثر فى الحاضر وترتاب فى المستقبل.
نقلا عن المصرى اليوم