حازم منير
بعيداً عن تحقيقات النيابة، فهى المرة الأولى التى تشهد فيها مصر رسمياً وقائع لأحداث مزرية معروفة إعلامياً باسم «قضية فيرمونت»، ربما كانت هناك أحداث كثيرة عديدة مثل «فتاة العتبة» أو «فتاة المعادى» وغيرها، لكن ستظل القضية الأخيرة وما أحاطها من أحداث مثل «فتيات التيك توك»، هى الحالة الأكثر «قرفاً» فى ذاكرة المصريين.
المسألة ليست فى جريمة جرى ارتكابها أو قل مأساة تعرضت لها فتاة، أو حتى سلوك اجتماعى منحط، وإنما هى واقعة خطيرة تتضمن فى جوانبها العديد من مظاهر الانهيار التى تعرضت لها بلادنا فى الحقب والعهود السابقة جرّاء سيادة عنصر المال على المجتمع، وتحوله إلى أداة للسيطرة السياسية والقمع الاجتماعى، حين أصبح من يملك المال يستطيع فعل ما يريد متى يريد ومن دون رقيب.
لست مُبالغاً ولا متحاملاً، فقد شهدت مصر جملة من الظواهر الاجتماعية الخطيرة، منذ منتصف السبعينات، وتحديداً منذ أطلق الرئيس الراحل أنور السادات سياسة الانفتاح، أو ما سماه الكاتب الرائع الراحل أحمد بهاء الدين «انفتاح السداح مداح»، فانطلق المارد من القمقم، وتنافس المتنافسون، دون حسيب أو رقيب، فانتشر الفساد وحلّ محل قيمة العمل، وتحول إلى أداة النجاح ووسيلة اكتناز الأموال، وطغت القيم الهابطة لتعتلى المجتمع وتقوده، وفى مقابلها رويداً رويداً تكرست المفاهيم السلفية، وتفشت بين المصريين أفكار العداء للمرأة، والنظرة الدونية لها، باعتبارها مفعولاً بها وليست فاعلاً بالمجتمع.
الواقع يقول إن المرأة المصرية، باعتبارها الأضعف بين مكونات المجتمع، ولأنها الأقل قدرة على القرار بحكم ثقافة سائدة منذ قديم الأزل، جاءت الأفكار السلفية لتكريسها، كانت هى الهدف لكل القيم والمفاهيم المنحطة الهابطة التى سادت المجتمع، وأصبحت «البنت» المصرية هى الهدف الأسمى لهذه المنظومة البربرية، وتحولت إلى «ملطشة» الأسرة، وخضعت ثقافتها لمفاهيم مفروضة عليها مجتمعياً، هى ليست مسئولة عنها.
«البنت المصرية» باتت بين مطرقة الذكور وسندان المجتمع، فقدت جانباً كبيراً من شخصيتها، وعانت وهى تحاول ممارسة قدر من حريتها، ولم تعد تملك القدرة المناسبة لتلبية احتياجاتها واختياراتها، وزاد الطين بلة سيادة مفاهيم المال، وما يترتب عليها من ثقافة الاستباحة، التى شاهدنا مظهرها فى «جريمة فيرمونت»، وكشفت لنا مستوى الانحطاط المُكون لثقافة البعض ممن يتنعمون فى عائد ثروات لم يشاهدوا قيماً محددة فى تكوينها، ولكنهم تشكلوا فكرياً وثقافياً على أنهم الأكثر تميزاً بقدراتهم المالية، حتى استباحوا أنثى دون إدراك لخطورة ما اقترفوه.
«البنت المصرية» التى خضعت لكل هذه الضغوط عبر حقب وعصور، اتجه بعضهن إلى الانكماش والخضوع أكثر وأكثر، واتجه بعضهن الآخر فى المقابل للتطرف وكراهية المجتمع وإنكاره بإعلان معاداته عبر سلوكيات وثقافة مقيتة، لكن الفريقين فعلياً ضحايا لمجتمع لم يوفر البيئة المناسبة، أو على الأقل لم يساهم أو يساعدها على المقاومة.
لا أنكر أن «لوبى» فضح «جريمة فيرمونت» من الظواهر الإيجابية فى المجتمع، ولعب دوراً مهماً فى مواجهة واحدة من أصعب الجرائم الاجتماعية التى شهدها المجتمع فى سنواته الأخيرة، وهو لوبى ساعد دون أن يقصد فى إثارة ملف «البنت المصرية» وما تواجهه من المجتمع، بغضّ النظر عن أى تفسيرات أو تأويلات من نوعية المسئولية الشخصية، أو القيم الهابطة التى تصيب الفتاة كما تصيب الشباب.
لكن الحقيقة أن هذا «اللوبى» تعرّض أيضاً لفيروسات أصابته فى مقتل، حين انقضّت عليه جماعات سياسية، استهدفت استغلال الجريمة البشعة، وما أحاط بها من ملابسات لأغراض لا صلة بينها وبين القضية، قدر ما تستهدف الزج بالصراعات السياسية مع الدولة المصرية، وتصفية حسابات، وتشكيك فى المؤسسات، حتى ولو كان كل ذلك على حساب القضية الأصلية، وعلى حساب فئة من المجتمع مطلوب حمايتها، وليس التلاعب بقضيتها لحسابات حزبية أو تنظيمية.
كان يمكن لهذا «اللوبى» أن يلعب دوراً مهماً فى ملف «البنت المصرية»، وما زال يمتلك هذه القدرة، بل هو مؤهل لذلك، ولكن باشتراطات ومواصفات محددة، أهمها النأى بالنفس عن المجموعات السياسية، والامتناع عن الاختلاط بها، كون مراكز وجماعات الضغط الاجتماعية، ذات تكوين متميز بأدوات خاصة بها، تتيح لها التعامل مع مؤسسات وقطاعات أوسع بكثير من تلك المتشابكة والمتداخلة فى الصراعات السياسية، وهناك أمثلة كثيرة فى هذا المجال، تكشف الدور المهم الذى تلعبه جماعات الضغط فى القضايا الاجتماعية.
جماعات الضغط فى أى مجتمع ظاهرة حياة، ودليل حيوية شديدة، وتعكس تطوراً فى المجتمع، وتكرس مفهوم المشاركة والمتابعة والنقد، وهى أداة مهمة للمجتمعات الديمقراطية، والأهم فيها قدرة الجماعة على الانضباط فى الإطار الذى تحدده لنفسها، وفى القضية التى تنشط من أجلها، دون شطط أو انحراف عن الأهداف المطلوبة.
«البنت المصرية» نموذج يحتاج لدراسة حقيقية وجادة عما تعرضت له، وعن استهدافها من فئات مختلفة، وإخضاعها لمفاهيم الأسر حتى من السيدات اللاتى أكسبتهن خبرة الحياة خوفاً ورعباً على بناتهن من المجتمع، وظنى أن محاولات البعض من بنات مصر للظفر بأنفسهن من كهوف الأسر تأثرت بقدر أو آخر بردة الفعل المتطرفة أحياناً ضد ثقافة المجتمع.
من ينكر أن البنت المصرية قدمت نموذجاً محترماً فرض نفسه على المجتمع فهو مريض وعاجز عن رصد مكونات المجتمع، لكن حتى هذا الجانب المتميز، يظل أسير ثقافة المجتمع التى ظلمت البنت المصرية لسنوات طويلة، وفرضت عليها إطاراً حديدياً يمنع انطلاقها ويحاصر قدراتها الإبداعية، ودورها فى بناء المجتمع والأسرة.
«جريمة فيرمونت» أكبر بكثير من كونها قضية جنائية، لأنها فى الحقيقة قضية مجتمع.
نقلا عن الوطن