بقلم: محمود عرفات

في أوراق الإسلام السياسي نقرأ جُمل الاستعانة بتراث نظم الخلافة التي يرون أنها حوت رؤيتهم السياسية -و هذا غير صحيح- و كنتيجة لذلك يطرحون برامج عامة مناهضة للحداثة و العلمنة و مدنية الدولة مدعين إتفاقها مع النظم الإسلامية -الخلافة الاسلامية- و لذلك رأيت أن أرد بطرح النموذج الاحدث للخلافة و الاقرب تطبيقيا للعصر و هي خلافة العثمانيين الاتراك التي هي في الحقيقة المخفية عَلمنت نفسها و استوردت التغريب الاوروبي و الحداثة بينما تيار الاسلام السياسي يصر على تجاهل تلك الحقيقة مقدماً وضعها قبل القرن التاسع عشر قرن التحديث الغربي و علمانية العثمانيين و يلي مقالنا هذا مقال آخر مكمل عن دولتهم الجمهورية الحديثة إن شاء الله كرد آخر على أوراق الاسلام السياسي التي تسئ للتجربة الجمهورية التركية و لنبدأ معاً الحديث عن ... علمانية الخلافة العثمانية.

يخطئ كثير من الباحثين بنسب التحديث الغربي و العلمانية بتركيا للعهد الجمهوري فالحقيقة أن العلمنة بدأت مع السلطان محمود الثاني (1785-1839) ذو الرؤى الإصلاحية المستمدة من عهد السلطان سليمان الثالث و كانت إصلاحاته المستندة لنظم اوروبية مقتصرة على بعض الشئون المالية و القضائية لكنه مثل حجر أساس إنطلق منه خلفه السلطان عبد المجيد الأول (1839-1861) الذي بدأ عهد التنظيمات العثمانية التي تصنف كعلمانية عثمانية ورثتها الجمهورية التركية لاحقاً.

كانت التنظيمات أو علمنة الخلافة ذات إجراءات واضحة و قوية مغيرة لمسار الدولة و نرصد أبرز نقاطها كالتالي:

-1- إحلال نظم إدارية اوروبية فرنسية و ألمانية محل النظام العثماني الاداري.
-2- إصدار القانون الاساسي الممهد للدستور المستوحى من النظم الاوروبية 3 نوفمبر 1839.
-3- إعلان المساواة بين المسلم و المسيحي و اليهودي و تغيير نظام التجنيد ليشمل غير المسلم و الغاء الجزية.
-4- الغاء القوانين المستندة للشريعة الاسلامية و إحلال قوانين فرنسية و المانية محلها بإستثناء قوانين الزواج و الطلاق و الاسرة.
-5- إتاحة حق المساواة بين الذكور و الاناث في الميراث عام 1840 باستثناء ارث الارض ثم ضم الارض للمساواة قانوناً في 1870.
-6- إعتبار المثلية الجنسية عمل لا يعاقب عليه القانون في العام 1858.
-7- السماح بإنشاء مدارس اجنبية بنظم غربية و معلمين أجانب كجزء من النظام التعليمي.
-8- نشأة الدستور في 23 نوفمبر 1876 و لكن تم تعليق العمل به في 13 فبراير 1878

*مر عهد عبد الحميد الثاني و العلمنة شبة متجمدة و إن لم يتوقف النفوذ الغربي عن التوغل بل إزداد ، مع إنقلاب الاتحاد و الترقي 1908 ثم 1909 أُستعيدت حركة العلمنة (كانت تسمى التنظيمات و لم تُذكر كلمة علمنة الا في العام 1937 في نهاية عصر أتاتورك و إن صنفت التنظيمات لاحقاً بمسمى العلمانية) و حرص الاتحاديون على تدعيم حقوق المرأة القانونية و حقوق العمل و المساوة لكن ظلت كل الاصلاحات العلمانية تلتزم حداً أحمر مرتبط بطبيعة استضافة الدولة للخلافة و كونها ملكية وراثية فتم تجميد قوانين تغيير الحرف العربي مثلاً و قانون الزواج و الطلاق الغربي بديلاً عن الشريعة و قوانين الحقوق السياسية للمرأة فتلك القوانين أُقترحت و تجمدت لطبيعة الخلافة و السلطنة.

*إلى هنا تنتهي جزئية التنظيمات -العلمنة- العثمانية بإختصار شديد في أطروحة تناقض الفكرة السائدة عن العصر العثماني الذي يتند اليه كتاب الاسلام السياسي ، الخلافة العثمانية علمنت نفسها و إعتبرت التغريب و نظم الحداثة المادية إعادة تنظيم للدولة بينما الاسلام السياسي اليوم لا يذكر كل هذا و يعطينا صورة مزيفة عن العصر العثماني بالقرن التاسع عشر يستند لها في أُطروحاته لينتج وهماً على وهم.
الحلقة القادمة إن شاء الله نكمل الحديث عن تركيا الجمهورية و علمانيتها و نرد على كتابات الاسلام السياسي بخصوصها..