فرانسوا باسيلي
الفرق بين الحياة في مصر والحياة في أمريكا هو أن الحياة في مصر حياة مع الناس وفي الناس وبالناس ووسط الناس ولأجل الناس ورغم الناس، حياة متداخلة متزاحمة ممتلئة معبئة ومفعمة بالناس، في مصر لا تحيا وحدك، تحيا في الجميع، في المجموع، في الجماعة، في الجمع، وفي الجمعة، كل شيء في مصر يؤدي إلي حياة جماعية،
حتي الراهب في مصر لا يعيش ميتاً عن الجماعة كما يفترض نظرياً، الدير في مصر هو مزار قبل أي شيء آخر، لأن من هم خارج الدير لا يطيقون العيش بغير بركات وصلوات ولمسات من هم داخل الدير، ومن هم داخل الدير لا يطيقون العيش بغير مشاعر وتواصل وتفاعل من هم خارج الدير، الرهبنة في مصر خرافة وخدعة، لا أحد يترهبن في مصر، لا أحد يموت عن الحياة لأن لا أحد يموت عن الناس في مصر.
والتلاحم الإنساني في مصر هو أكثر وأعمق وأدفأ وأشمل منه في أي مجتمع آخر. هكذا يقول الغرباء حين يزورون مصر، يستغربون كيف يحتضن الناس بعضهم بعضاً في فرحة حقيقية عند التلاقي في الشوارع، يستغربون كيف يحتضن المصريون الغرباء حين يلتقونهم لأول مرة، كيف يدخل المصري إلي قلوب الآخرين الذين لا يعرفهم مباشرة وبدون إستئذان فيسمحون له بذلك وهم في دهشة لحرارة مشاعره ورغبته الحقيقية في التواصل الحميم معهم.
من يتوهم أنه يعيش وحيداً في مصر عليه أن يقضي ثلاثة أشهر في أمريكا، عندها سيعرف أن الوحدة في مصر خرافة، وأن لاحد يعيش وحده في مصر، ولهذا فكلمة شاعرنا الجميل أحمد عبد المعطي حجازي الشهيرة، هذا الزحام لا أحد، هي عبارة شاعرية وجودية إنسانية عالية لكنها ليست عبارة مصرية، فلا أحد في مصر يعيش بلا زحام، ولا حياة في مصر بلا زحام، وما يمكن أن تشتكي منه ليس الوحدة والوحشة ولكن الإزدحام الخانق والتلاصق المعيشي الذي لا فرار منه.
الحياة في أمريكا هي حياة بلا زحام، بلا ناس، بغير الناس، بدون الناس، خارج الناس، في وجود الناس ولكن دون الإلتصاق بالناس.
حياة هادئة، منظمة، مفهومة، متوقعة، منضبطة، علاقتها بالناس محدودة، محترمة، ومبتعدة، حياة علاقات عامة وليس صداقات خاصة عميقة وحية.
وعنها يمكن أن يقول الشاعر قولاً حقاً.. هذا اللازحام لا أحد.