فيفيان سمير
جلس الصغير هادئا مستكينا، يجول بعينيه في المكان كعادته، يتأمل كل المارين والجالسين حوله، حتى وجد ضالته أخيرا فتهلل وجهه وأبتسم فرحا، تعلقت عينيه بذلك الجالس خلف الكتاب، مستغرقا في القراءة، من حين لأخر يرتشف فنجان قهوته، مستمتعا بالجو الدافئ اللطيف، بحديقة النادي الاجتماعي في يوم عطلته،
جرى إليه الصغير مبتهجا متحمسا، أبتسم الرجل حين رأه، مد يديه يلتقطه ويحتضنه، تعلق برقبته ساندا رأسه على كتفه في دلال، طلب منه أن يصحبه في جولة بالنادي، فهو يريد أن يتباهى به أمام أصدقائه ليعرفوا أن له أبا وسيما حنونا مثلهم، فرضخ الرجل لرغبته. بعد انتهاء جولتهما ذهبا لشراء السندوتشات والمياه الغازية، التي تمنعه والدته من تناولها، لكنه لن يخبرها أن والده أحضرها له، فسيكون سرهما الصغير، بعد الغذاء ذهبا لحضور مباره كرة قدم لتشجيع فريقهما المفضل، في نهاية اليوم يحمل الأب أبنه الى البيت ويساعده في تغيير ملابسه والاغتسال، ثم يقرأ له قصة من كتابه المفضل وهو يستعد للنوم، يطبع قبلة على جبينه ويدثره بالغطاء ويبقى جانبه، يحتضنه إلى أن يستغرق في نومه.
يخرج الصغير من حلمه الجميل حين يقف الرجل ويستعد لمغادرة المكان، لا، لا يريده أن يذهب، أنه يريده أبا له، فقد تعب كثيرا حتى عثر على الرجل الذى يراه مناسبا أن يكون والده، وزوجا لوالدته الجميلة الحزينة دائما، تسلل دون أن تشعر به والدته ليسير خلف الرجل، دخل الرجل مطعم النادي فتردد الصغير في الدخول وراءه، وقف ينتظره عند الباب لا يرفع عينيه عنه، أدرك أن الرجل يبادله النظرات مبتسما وقد شعر أن الصغير يراقبه، أشار له أن يدخل، فأتجه إليه دون تردد، أستقبله الرجل بعطف وسأله عن والديه، أجابه بان والده في السماء، عند ربنا، وهو لا يتذكره، اما والدته فقد تركها وأسرع خلفه ليسأله إذا كان يريد زوجة وأبن، فهو ظل يبحث في كل الوجوه عن رجل يشبه أباه، الذى حفظ ملامحه من الصورة المعلقة بغرفته، حتى وجده، يريده أن يكون والده، يلعب معه، يعيده من المدرسة مثلما يفعل أباء أصدقائه، يصحبه لمشاهدة المباريات والأفلام الكرتون، يحمله حين يغلبه النوم في السينما، يقرأ له القصص ويحتضنه حتى يستغرق في النوم، لمعت عيني الرجل ورق قلبه للصغير الذى يبحث عن أب، لكنه تنبه فجأة إلى أنه صغير جدا، ربما لم يتجاوز السادسة من عمره، ولابد أن والدته تبحث عنه وقلقة لاختفائه، فقال له أنه يجب أن يعيده لأمه أولا ثم يبحثا هذا الأمر فيما بعد، حمله بحنان وقبله، فأعتبر الطفل ذلك موافقة مبدئية منه، أتسعت ابتسامته في سعادة طاغية، أمسك بيده في اعتزاز وسار معه متباهيا بوالده الجديد، متمنيا أن يقابل بعض زملائه في المدرسة ليقدم لهم والده كما يفعلون.
مضى الأثنان يتحدثان والصغير يقفز فرحا ويسترسل في رسم أحلامه الملونة لما سيفعلان سويا، حتى وصلا لوالدته التي صرخت فرحا حين رأته، فقد كاد قلبها يتوقف هلعا لغيابه، أغرقته بالقبلات ودموعها تغلبها إلى أن تنبهت لوجود الشخص الذى أحضره فمدت يدها تشكره، أسرع الصغير يقدمه لها على أنه زوجها الجديد ووالده الذى أختاره من بين الكثيرين الذين تفحص وجوههم بالشوارع وبكل الأماكن التي يرتادونها، أحست السيدة بالحرج وكذلك الرجل، الذى أستأذن بالانصراف، فصاح الطفل يطالبه بالبقاء ويصرخ في أمه ألا تدعه يرحل، أنحنى الرجل، متأثرا بالموقف، يقبله ويعده أن ينتظره كل أسبوع في نفس المكان ليقضيا اليوم معا، إلى أن يعتاد أن يكون له أبنا، ربما بعد ذلك يذهب معه للمنزل، أنسحب الرجل وهو يغالب دموعه، الأم قلبها ينفطر لألم ولدها الذي اضطرت أن تجاريه في حلمه، مشفقتا عليه من صدمة الواقع وكسر قلبه الصغير، تقول له أن الرجل سيتعود عليه سريعا، وسيأتي ليعيش معهما، ويكون له أبا حنونا، يشاركه يومه ويقبله قبلة المساء ويأخذه في رحلات يحكى عنها لأصدقائه.
انسابت دموعها العاجزة تغرق وجهها، بينما الطفل يقفز حولها مبتهجا ينسج خيوط حلمه الذهبي فيما سيفعل مع والده الجديد، وما سيقوله لأصدقائه، فأخيرا سيكون لديه ما يرويه عن أبيه مثلهم.