بقلم : نبيل أديب عبدالله
 
أنصار الدولة المدنية والخيار المر
المنطقة كلها الآن فى حالة ترقب لما تسفر عنه الإنتخابات المصرية، حيث يعلم الجميع أن نتائج تلك الإنتخابات ستلقى بظلالها على المنطقة كلها بالفعل ورد الفعل الذى يمكن لها أن تحدثه . كانت قدرة الشعب المصرى على إسقاط نظام مبارك مثار دهشة العالم، فرغم أن مظاهر الإعياء كانت بادية للعيان على ذلك النظام، إلا أن عدم وجود أى مظاهر لمقاومته كانت تدفع المراقبين للإعتقاد بأن التغيير لم يكن قريب الحدوث، إذ لم يكن حالهم آنذاك ببعيد عن حالنا، الذى أنتج تعبيرات "لحس الكوع" لدى دهاقنة النظام، الذين لا يرون سوى ضعف المعارضة، ولا يستشعرون أى خطر فى عجزهم عن تقديم أى حلول لمشاكل البلاد المتأزمة. على أى حال بالعودة لمصر نجد أن النظام سقط مترنحاً بما كبل نفسه به من فساد وتسلط، سهل على فتية أغرار أن يصرعوه، قبل يستعدوا لذلك تماما من حيث التنظيم.
 
سقط نظام مبارك كقائد روماني مهزوم تحت سيوف جنده، قبل أن تصيبه سيوف الثوار، ولن نخضع لإغراء إجراء أى مقارنة بين سوار الدهب وطنطاوي فى هذا الصدد، ولكن نكتفي بالقول بأن الثورتين أسقطتا نظامين متهالكين، ليحل محلهما نظام هجين يحمل بعضا من القوى الثائرة ،وبعضا من القوي التى إنقلبت على عقبيها فى الساعة الأخيرة، ومكنها موقعها فى النظام السابق، من أن توجد لنفسها مكاناً فى النظام الجديد .ولكن ما لا نستطيع إغفاله فى هذا الصدد من أوجه الشبه، تمثل فى خروج الإسلام السياسي بمكاسب إنتخابية  فى الإنتخابات التى جرت على عجل عقب الثورتين، وقد كان السبب فى الحالتين الصلة بالنظام القديم.
 
الفوز بالبرلمان
رغم ضآلة دورهم فى الثورة، ورغم تقاربهم من المجلس العسكرى خلال الفترة الإنتقالية، حقق الأخوان المسلمون مكاسب إنتخابية وفرتها لهم علاقتهم بالسلطة، والتى بدأت عندما إنقلب السادات على اليسار فى مطلع السبعينات مستعينا بهم، ومتحولاً 180 درجة عن سياسة العداء التى سلكها عبدالناصر تجاههم، فأمسكوا بمفاصل الإقتصاد بمعونة السلطة، وأموال البترول التى جمعوها فى فترة الإغتراب بالخليج. منذ ذلك الحين ظل الأخوان يتمددون إقتصادياً ودعوياً، ويبسطون نفوذهم داخل العمل النقابى، بشكل ناعم لا يصادم النظام، ولا يعارض أطروحاته السياسية، وقد حرصوا على عدم مواجهة السلطة وإن إحتفظوا بموقف مستقل عنها، عكس أخوان السودان الذين إندمجوا بسلطة نميري.

وكانت السلطة ترى فى أطروحاتهم ما يصد عنها ليس فقط أطروحات اليسار، بل أيضاً أطروحات الفرق المتطرفة التى خرجت من عباءاتهم، والتى تبنت ذهنية التكفير وطرحت العنف سبيلاً لأسلمة المجتمع. ظل الأخوان المسلمون يعملون فى الإطار الشرعي، وظلوا يقبلون بالمتاح من المشاركة فى السلطة عن طريق المشاركة فى الإنتخابات بشكل شرعي، وكان النظام يرى فيهم حراس للفكر اليمينى الذى تبناه، وفى نفس الوقت فزاعة يبتز بها تأييد الغرب، مع علمه التام بأنهم لن يخرجوا عن طاعته. عند الإجهاز على النظام بيد جنده لم يكن هنالك ما يفرق من حيث الأرضية الفكرية بين العسكر الذين إستولوا على السلطة، وبين الأخوان الذين كانوا يشكلون معارضة مدجنة للنظام.

ولكن من الناحية الاخرى فإن الثروة التى تم تكوينها تحت نظر النظام البائد وبموافقته، والتنظيم الذى سمح له بالعمل طالما أنه يعرف الحدود المسموح بها، وفرا لهم قدرة على إجتذاب أسواط، لم يكن من الممكن فى الفترة البسيطة التى تلت سقوط نظام مبارك وإجراء الإنتخابات البرلمانية، لأى مجموعة أخرى أن تنافسهم فيها، خاصة وأنهم قد ضموا لهم بدون وجه حق الرصيد الذى كونته المعارضة العنيفة التى مارستها فرق إسلامية أخرى. لم تكن قدرة الإخوان على الفوز بالإنتخابات موضع نقاش، وإنما كان موضع خشية من أن يكون بداية للإستئثار بالسلطة، وإقامة دولة دينية، ولكنهم لمنع الإستقطاب السياسى أكدوا فى ذلك الزمن المبكر أمرين: الأول أنهم لن يسعوا للفوز بأغلبية برلمانية والثانى أنهم لن يرشحوا للرئاسة.
 
الديمقراطية والإنتخابات
يرى الكثيرون أن الديمقراطية والإنتخابات الحرة النزيهة هما فى واقع الأمر شيئاً واحداً، وهذا ليس بصحيح، فرغم أنه يستحيل وجود ديمقراطية بدون إنتخابات حرة ونزيهة، إلا أن الإنتخابات الحرة النزيهة تظل حتى الآن كعب أخيل بالنسبة للأنظمة الديمقراطية الحقيقية، ونحن إذ نقول ذلك لا نعنى الإنتخابات الشكلية البحتة التى يتم إجراؤها فى الأنظمة الإستبدادية، بتدخل فظ من السلطة، والذى يأخذ أشكالاً عديدة كتزوير الإنتخابات، أو عدم السماح بحرية معقولة للناخب، توفر له حرية الإختيار، كسلب حريتى التعبير والتنظيم، وغيرهما من الحريات العامة التى بدونها لا يكون للناخب إختيار واع، ولكننا نقصد الإنتخابات الخالية من تدخل السلطة التى تجرى فى المجتمعات الديمقراطية العريقة، فحتى هذه اللحظة لم يجد الفكر السياسى وسيلة لمنع التأثير على الناخبين بشكل ينتج تصويتاً حراً، وما زالت صناديق الإنتخابات تعانى من تأثيرات غير ديمقراطية، فحتى فى مجتمع يعترف بالحريات العامة ولا يقمعها، يظل أيضا هنالك مجال للتأثير على الناخب عن طريق الثروة لا يمكن تجاهله.

صحيح أن تلك الدول حررت الإعلام من سيطرة الحكومة، إلا أنه ظل يرزح تحت سيطرة الثروة، لأن تكلفة مخاطبة الناس عن طريق الإعلام تجعل من المستحيل على من لا يملك المال أن يجد فرصاً متكافئة مع من يملكه، إضافة لما يتيحه النظام الرأسمالى من ملكية خاصة لوسائط الإعلام، وما يتيحه ذلك من تأثير على إتجاهات الرأى العام. هذا ليس صحيحا على إطلاقه، لأن الإعلام فى هذا العصر بإعتماده على ذلك الكم الهائل من الفنون، يتيح فرصاً لإختراقه لمن يحذق فنونه، حتى ولو كان يملك رأياً مخالفاً لمالك الوسيط الإعلامى المعنى، ولكن تظل سيطرة رأس المال على وسائط الإعلام مسألة مثيرة للقلق بالنسبة للباحثين فى حرية الإعلام، وأثرها على الصندوق الإنتخابى. ما يميز الأنظمة الديمقراطية عن الأنظمة الإستبدادية، ليست نزاهة العملية الإنتخابية، كما تبدو من حرية الإدلاء بالأصوات، ولكن خضوع الحكام للمحاسبة، وتوفر الحريات العامة، وسيادة حكم القانون، وإستقلال أجهزة الدولة الدائمة عن التدخل السياسي، وفوق كل ذلك إستقلال القضاء، إذا كان النظام يقوم على ذلك بشكل لا يمكن العبث به، فإنه يظل نظاماً ديمقراطياً حتى ولو خضع الناخبون لتأثيرات غير مناسبة بالطرق الناعمة التى توفرها الثروة. إن فوز هذا الحزب أو ذاك ليس هو ما يميز الديمقراطية عن غيرها، ولكن ما يميزها هو خضوع الحزب الحاكم للمحاسبة، وعدم قدرته على التأثير على أجهزة الدولة الثابتة، وخضوعه لقضاء مستقل .

إن فوز نيكسون برئاسة الجمهورية لا يعنى شيئاً، ولكن فقدانه للمنصب لأنه خالف القانون يعنى كل شئ. 
 
كان فوز الأخوان بما يقرب عن 40% من مقاعد البرلمان أمراً متوقعاً نتيجة لبقائهم فترة طويلة على هامش النظام، مما مكنهم من بناء تنظيم قوى يعتمد على ثروة كبيرة، ولكن هذا فى حد ذاته لم يكن يعنى شيئاً طالما أن التفويض هو تفويض مؤقت بعمر البرلمان، خاصة وأن التصويت لم يجتذبه المشروع السياسي للأخوان، وإنما هو تصويت مبنى على عدم خبرة ناخب لا عهد له بتعددية حقيقية، مطالب بالإختيار بين طرح دينى عاطفى، وبرامج سياسية ما زالت فى طور التكوين. ولكن المسألة إختلفت فى الإنتخابات الرئاسية، فقد تبلور الصراع حول الدولة المدنية الديمقراطية والتى يدعو لها عدد من المرشحين، وبين الدولة الدينية والتى دعا لها بشكل رئيسى مرشح الأخوان المسلمين. ما أدى لحدة الإنقسام فى المشهد السياسى المصرى عند التصويت على الرئاسة، هو محاولة الإخوان عن طريق أغلبيتهم البرلمانية أن يغيروا من طبيعة النظام بتشريع قوانين تخالف مدنية وديمقراطية الدولة، ومحاولة السيطرة على الجمعية التأسيسية والتى يفترض ان يكونها البرلمان، لصالح مشروع الدولة الدينية 
 
الملامح الرئيسية للخارطة التصويتية
الناظر للملامح الرئيسية للخارطة التصويتية يجد أن الأخوان قد فقدوا اكثر من نصف الأصوات التى كانوا قد حصلوا عليها فى الإنتخابات البرلمانية، و أنهم حصلوا تقريبا على نفس الأصوات التى حصل عليها أحمد شفيق، والذى ظن الجميع أنه كممثل للنظام القديم، لن يستطيع الحصول على أصوات ذات بال. ما يميز النتيجة فى التصويت على الرئاسة أن أنصار الدولة المدنية قد تفرقوا بين عدد من المرشحين، أهمهم حمدين صباحي، ولكنهم شملوا أيضاً عبد المنعم أبو الفتوح، والذى حصل بشكل رئيسى على أصوات أنصار الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية، وخالدعلى، وعمرو موسى ولكن الأهم من ذلك أن أعداد معتبرة من أنصار الدولة المدنية صوتوا لأحمد شفيق، فى حين أن أنصار الدولة الدينية صوتوا لمرسى.

بالنسبة لأنصار الدولة المدنية فقد تدخلت فى الإختيار برامج المرشحين من أنصار الدولة المدنية، ولكن كتلة تصويتية كبيرة بينهم قد إختارات المرشح الذى ترى أن فرصه فى الفوز على الأخوان أكبر. بالنسبة لأحمد شفيق فإن التبرير الوحيد لهذه الأصوات التى حصل عليها رغم كراهية الشارع المصري للنظام البائد، هو أن تلك الأصوات تدخل في عداد التصويت الإحتجاجي، أو التصويت السلبي، من حيث أنها أصوات ضد محمد مرسي، وليست أصوات لصالح أحمد شفيق. أما لماذا أحمد شفيق وليس حمدين صباحي، أعتقد أن السبب في ذلك هو أن نتائج إستطلاعات الرأي التى سبقت الإنتخابات، والتى لم تعطي لحمدين صباحي أي فرصة في المنافسة على الرئاسة هى التى جعلت التصويت السلبي لدى أنصار الدولة المدنية يذهب لأحمد شفيق بالدرجة الاولى، بإعتباره قادر على هزيمة مرسي، وبالدرجة الثانية لعبد المنعم أبو الفتوح والذي كان مازال هنالك شك في إنحيازه للدولة المدنية، أضف لذلك أن حالة الإنفلات الأمني أغرت جزء من الرافضين للدولة المدنية بأن يصوتوا لأحمد شفيق.  
 
وهذا ما فطن له الجميع الأن ،وهو أن الأغلبية الساحقة والتى قد تصل لـ 65% من الأصوات كانت تمثل تصويتا سلبيا ضد الأخوان بسبب أدائهم فى البرلمان، حيث تنكروا لكل تعهداتهم السابقة وحاولو الإستئثار بالسلطة، وفرض مشروع دولة دينية. وقد فطن الأخوان أيضا لذلك وعليه فقد أسدلوا غطاء على برنامجهم الحقيقي، فهاهو محمد مرسي يتحدث عن إيمانه بالدولة المدنية، وبقبوله لأن يستقيل من الحزب بمجرد إنتخابه، وأن يشكل حكومة وحدة وطنية برئاسة شخص من خارج الأخوان المسلمين، وأن إلنساء أحرار فى أن يقرروا ما يرتدونه، بل وأن يتم تكوين الجمعية التأسيسية بشكل متوازن، وبتمثيل معتبر للفقهاء والدستوريين. أليس فى هذا هزيمة كاملة لبرنامج الإخوان المسلمين الإنتخابي؟ وإذا كان هذا ما إقتنع به محمد مرسى مؤخراً، فلماذا لا ينسحب من إنتخابات الإعادة و يوجه أنصاره لتأييد حمدين صباحي، الذى هو الممثل الشرعي للتيار الذى ينادي بكل ذلك. وهل السبيل الوحيد لهزيمة برنامج الإخوان المسلمين هو إنتخابهم؟ أم أن المسألة لا تعدو أن تكون جزء من مسلسل نقض العهود؟
 
لقد وضع الصندوق الإنتخابي الكتلة الديمقراطية المدنية فى خيار صعب، وهو إختيار بين أمرين أحلاهما مر، فإذا كان الناخب المعني يعلم مقدما أنه سيعارض من ينتخبه، فهل يكون من الفطنة أن يختار من يسهل عليه الإطاحة به ؟ يبدو أنه لا مناص من ذلك.