د.عبدالخالق حسين
وأخيراً، تنفس العالم الصعداء بالتخلص من دونالد ترامب، فهو أشبه بكابوس رهيب في السياسة الدولية وحتى لأكثر من نصف الشعب الامريكي.
 
لذالك لا نبالغ إذا قلنا أنه كان شخصاً غريباً على السياسة الأمريكية التقليدية، بل وعلى العالم كله. فقد تصرف كبلطجي، أو رئيس عصابة مافيا نزق ذو مزاجية متطيرة، تبوأ منصب رئاسة دولة عظمى مثل أمريكا وعلى حين غفلة.
 
فقد عُرف بالرعونة منذ حملته الانتخابية الرئاسية الأولى عام 2016 ، وطريقة مجادلاته مع منافسته القديرة هيلاري كلنتون، حيث كان يستخدم العنف الكلامي الذي صدم به العالم. وخلال فترة رئاسته لأمريكا كان قد عمل على تصعيد التوتر ليس في أمريكا وحدها، بل وفي العالم.
 
فقد خرج ترامب على الأعراف والتقاليد الدبلوماسية، والمعاهدات الدولية بشكل فض وفج بشكل غير مسبوق، وكان في حالة توتر وتشنج حتى مع العديد من أفراد طاقمه الإداري في البيت الأبيض فكسب عداءهم. 
 
لا شك عندي أن فوز ترامب عام 2016 كان نتيجة رد فعل اليمين الأمريكي البيض المتطرف على فوز أوباما عام 2008، وهو من أصول أفريقية، والذي قام بإجراءات تقدمية، داخلية وخارجية، مثل الخدمات الصحية، والتقارب مع كوبا... الخ، وهذه الاجراءات استفزت اليمين المتطرف.
 
فكان ترامب مصاباً بعقدة نفسية وحقد أعمى ضد سلفه الرئيس باراك أوباما بدافع عنصرية، لذا فأول عمل قام به عند تسلمه الرئاسة هو إصدار قرار بإلغاء نظام الخدمات الصحية الذي أسسه أوباما والذي سُمِّي باسمه (Obama healthcare)، والذي كان يفيد كل الشعب الأمريكي وخاصة الفقراء منهم الذين يشكلون نحو 40 مليون مواطن أمريكي تحت خط الفقر وفق مقاييس أمريكا
 
لقد قام ترامب بشق الشعب الأمريكي بإثارة النعرة العنصرية بين البيض والملونين، إضافة إلى تعامله الخاطئ مع جائحة كورونا، ضارباً تعاليم الخبراء من العلماء والأطباء عرض الحائط، حيث بلغت نسبة الوفيات والإصابات في أمريكا الأعلى في العالم، إلى أن هو  نفسه أصيب بهذا الداء وأدخل المستشفى(1). كذلك حربه على الإعلام الأمريكي والعالمي واتهامه بتزييف الأخبار عنه.
 
أما في علاقاته الدولية، فرغم أنه وعد بأن يجعل أمريكا عظيمة وذات هيبة، بينما جعلها دولة في مواجهة العالم، وحتى ضد حلفاء أمريكا التقليديين مثل دول الناتو، والوحدة الأوربية. و أخرج أمريكا من اتفاق باريس بشأن البيئة والتغيير المناخي لعام 2015، علماً بأن أمريكا التي يشكل شعبها نحو 4.3% من سكان العالم، تساهم بنحو 30% في تلويث البيئة. كما وأعلن حرباً ظالمة على منظمة الصحة العالمية (WHO)، وقاطعها وحرمها من المساعدات المالية التي كانت نحو 400 مليون دولار سنوياً، لأن رئيس المنظمة تبنى موقف الحياد والالتزام بالمبادئ العلمية، ورفض الإذعان له في إلقاء اللوم على الصين الشعبية وتحميلها مسؤولية جائحة كورونا.
 
ومن المتوقع أن الرئيس المنتخب بايدن سيلغي كل هذه الإجراءات الخاطئة التي اتخذها سلفه ترامب.
 
أما انحيازه لإسرائيل ضد الشعب الفلسطيني فحدث ولا حرج، إذ كان ترامب أداة طيعة بيد بنجامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، حيث قطع الدعم المالي عن الحكومة الفلسطينية، واعترف بقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة أمريكا إليها، واعترف بإلحاق مرتفعات الجولان السورية بإسرائيل، وبادر بما سمي بـ(صفقة القرن) لتنفيذ سياسة التطبيع مع إسرائيل في دول المنطقة.
 
و ألغى الاتفاقية النووية مع إيران من جانب واحد، الأمر الذي أدى إلى تصعيد العداء بين أمريكا وإيران، وساهم في تصعيد التوتر بين دول منطقة الشرق الأوسط.
 
وقائمة تصرفات ترامب الفضة طويلة إلى حد أن راح بعض الخبراء يتنبئون بأن أمريكا على وشك الانهيار بسبب تصرفاته الرعناء، وكأن أمريكا هي من الدول الدكتاتورية مبنية على كاهل شخص واحد، وليست دولة مؤسسات ذات نظام ديمقراطي عريق. 
 
وأخيراً، قال الشعب الأمريكي كلمته، فقد أزاح هذا الكابوس بالانتخابات الأخيرة، ولم يسمح له بتجديد رئاسته لأربع سنوات أخرى. ولكن رغم ذلك يبقى تأثيره السلبي على الشعب الأمريكي إلى أمد غير معلوم، لأنه مع كل سلبياته فهو مازال يتمتع بشعبية واسعة حيث صوَّت له نحو 70 مليون من مجموع 160 مليون ناخب ساهموا في التصويت، وهذا رقم لا يستهان به.
 
أما المرشح الديمقراطي الفائز، جو بايدن، وكما نقرأ في موجز سيرته على الويكيبديا، فقد أثبت إصراره وعزيمته أن يكون رئيساً في محاولته الثالثة، حيث سعى إلى الترشح عن الحزب الديمقراطي للرئاسة في عام 1988 وفي عام 2008، وفشل في كلتا المحاولتين. ثم اختاره باراك أوباما ليكون زميله في السباق الرئاسي عام 2008، والذي فاز به، وبذلك أصبح بايدن أول كاثوليكي، وأول شخص من ولاية ديلاوير نائب رئيس الولايات المتحدة.
 
أُنتخِب بايدن أول مرة لمجلس الشيوخ في عام 1972، وأصبح سادس أصغر سيناتور في تاريخ الولايات المتحدة. وأعيد انتخابه إلى مجلس الشيوخ ست مرات، وكان رابع أكبر عضو في مجلس الشيوخ عندما استقال ليتولى منصب نائب الرئيس في عام 2009. وكان عضوا قديما ورئيسا سابقا للجنة العلاقات الخارجية.
 
وعارض حرب الخليج عام 1991، لكنه دعا إلى تدخل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في حرب البوسنة في عامي 1994 و 1995. وصوت لصالح القرار الذي أذن بقيام حرب العراق في عام 2002، لكنه عارض زيادة القوات الأمريكية في عام 2007.
 
ومن هذه القراءة في سيرته، نعرف أن الرئيس المنتخب جو بايدن يتمتع بخبرة سياسية واسعة وعميقة في الشأن العام لنحو 50 عاماً، وليس كسلفه دونالد ترامب الذي كان يفتقر إلى الخبرة السياسية، رغم خبرته كرجل اعمال ناجح، ولكنه أثبت جهله وفشله في السياسة، إذ شق الشعب الأمريكي خلال عهده أكثر من عهد أي رئيس آخر.
 
ورغم خسارته والبون الشاسع في عدد أصوات الناخبين، وكذلك في المجمع الانتخابي (Electoral college) بينه ومبين منافسه المرشح الديمقراطي بايدن، رفض ترامب الاعتراف بهزيمته كما يقتضي العرف في الأنظمة الديمقراطية، ومازال يردد أن الانتخابات شابها التزييف على نطاق واسع، ودون أن يقدم أي دليل.
 
بينما الرئيس المنتخب، جو بايدن فقد اتبع نهجاً معتدلاً، للم شمل الشعب الأمريكي، فقد قال أمام أنصاره في خطاب النصر في مسقط رأسه ويلمنغتون في ولاية ديلاوير وبعد حصوله على أكثر من 74 مليون من أصوات الناخبين، و 279 صوتا في المجمع الانتخابي: "لقد تحدث شعب هذه الأمة. منحونا نصرا واضحا ونصرا مقنعا". وأضاف بعد أن شكر الأميركيين على "الانتصار": "أتعهد بأن أكون رئيسا يسعى للوحدة لا للتقسيم". كما وطلب بايدن من ترامب إلى اللقاء والحوار.(2)
 
رب ضارة نافعة.
ومهما قيل عن ترامب وتصرفاته المتهورة، والخارجة عن الأعراف والتقاليد الديمقراطية الأمريكية وغير الأمريكية، فيمكن اعتبار فوزه عام 2016 نعمة بثوب نقمة.
 
فقد كان الرجل صادقاً في محاربته للإسلام السياسي، وبالأخص لحزب الأخوان المسلمين الذي فرَّخ جميع التنظيمات الإرهابية الإسلامية السنية مثل القاعدة، وداعش وطالبان، ولشكر طيبة الباكستانية، وجبهة النصرة السورية، وبكو حرام النايجيرية، ومحاكم الشباب الصومالية، وغيرها كثير.
 
فكما كشفت آلاف الإيميلات السرية التي تركتها منافسته هيلاري كلنتون ونشرها ترامب مؤخراً، كانت مع أوباما في علاقة ودية مع حزب الأخوان المسلمين بذريعة أن هذا الحزب يمثل الاسلام المعتدل يمكن توظيفه لضرب الإسلام المتشدد، وهذا الاعتقاد خاطئ أثبت فشله.
 
لذلك وقفت إدارة  الرئيس أوباما مع فوز الاخوان المسلمين في مصر إثناء ما سمي بانتفاضات الربيع العربي عام 2011.
 
كما وقفت إدارة أوباما ضد ثورة الشعب المصري عام 2012 التي أطاحت بحكومة الرئيس الأخواني محمد مرسي عياط، وعارضت الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي أنقذ مصر، بل والبلاد العربية من أبشع حكومة فاشية دينية في العالم الإسلامي لا يقل خطورة عن فوز النازية الهتلرية في ألمانيا في الثلاثينات من القرن العشرين.
 
لذلك ففوز ترامب عام 2016 على الأقل كان في صالح القوى المناهضة للتطرف الإسلامي في العالم.
 
ماذا لو لم يقر ترامب بالهزيمة؟
يفيد تقرير بي بي سي، تقضي العادة بأن يهاتف المرشح الخاسر الآخر الفائز لتهئنته وهو تقليد يُحترم في السياسة الأمريكية، لكنه ليس واجبا بأي حال من الأحوال، وبالتالي لا يتعين على ترامب التنازل والخروج والإقرار بالهزيمة. كما أنه ليس مضطراً لمحاولة التظاهر والتفاعل بشكل جيد أو حضور حفل تنصيب بايدن الذي يبدأ ولاية من 4 أعوام كساكن وسيد للبيت الأبيض اعتبارا من ظهر يوم الـ20 من يناير/كانون الثاني عام 2020 بحسب ما نصت عليه التشريعات بالولايات المتحدة. ويتوقع بناء على ذلك تنصيب جو بايدن بصفته الرئيس الـ46 للولايات المتحدة ونائبته كمالا هاريس في نفس التاريخ حتى وإن رفض ترامب الحضور.(2، 3)
 
الدروس المستخلصة
الانتخابات التي تجرى في الدول الديمقراطية العريقة والناضجة، مثل أمريكا، بريطانيا، وفرنسا وغيرها، ومهما بلغت فيها الخطابات البلاغية إثناء الحملات الانتخابية من عنف خطابي، وما تنال من تغطية إعلامية عالمية واسعة، هي دروس لشعوبنا في العالم الثالث، والحديثة على الديمقراطية يجب أن تتعلم منها.
 
فخلال حكم ترامب وما قام به من أعمال صدم بها العالم، راح البعض من أعداء أمريكا يمنون النفس على أن أمريكا في طريقها إلى الإنهيار، ويستشهدون بمقالات من بعض المفكرين الأمريكان، أو من غيرهم، مفادها أنه بما أن جميع الإمبراطوريات في التاريخ قد انهارت، فإن "الامبراطورية الأمريكية" لا بد وأن تنهار.
 
في الحقيقة هذه المنشورات لا تتعدى كونها مجرد تمنيات وأفكار رغبوية تعبر عن رغبة كتابها ومن يشاركهم في نمط التفكير، ولا نصيب لها من التحقق على أرض الواقع. فأمريكا ليست امبراطورية، بل اتحاد ديمقراطي لخمسين ولاية، تتمتع كل منها بحكم ذاتي وفق دستور ديمقراطي. وهذه الدولة تضم شعباً معظمه من المهاجرين من جميع العناصر البشرية في العالم. فهذا الشعب الذي كان قبل خمسين أو ستين عاماً يمنع السود من الترشح والتصويت، نجح في فوز رجل أسود مثل أوباما لرئاسة الجمهورية. وكذلك اليوم السناتورة كمالا هاريس، فازت كأول امرأة، وأول ملونة من أم هندية، وأب من أصول أفريقية، كنائبة للرئيس.
 
ليس هذا فحسب، إذ هناك توقعات أن الرئيس المنتخب جو بايدن البالغ من العمر 78 عاماً لن يرشح للرئاسة القادمة عام 2024 لأنه سيكون عمره حينئذ 82 سنة. وبذلك سيفتح الباب لنائبته كمالا هاريس للترشيح لرئاسة أمريكا في الانتخابات الرئاسية القادمة، وربما ستفوز لتكون أول امرأة تصبح رئيسة للولايات المتحدة الأمريكية.
 
والدرس الآخر الذي يمكن استخلاصه من هذه الانتخابات، هو، وكما قال ونستون تشرتشل: (أن الحكومة الديمقراطية ليست مثالية، ولكن لحد الآن لم توجد حكومة أفضل من الحكومة الديمقراطية). ففوز دونالد ترامب عام 2016 كان نوعاً من الانحراف(aberation) في التاريخ، ومن الأخطاء التي لم يسلم منها النظام الديمقراطي.
 
ولكن النظام الديمقراطي في نفس الوقت يمتلك آلية التصحيح الذاتي(Auto-correction)، لأخطائه. وها هي الانتخابات الأمريكية الأخيرة قد صححت ذلك الخطأ، وتخلصت من ترامب.
 
ونظراً للأزمات التي مرت بها أمريكا والعالم بسبب سياسات ترامب الرعناء، وما تراكم لدى الرئيس المنتخب بايدن من خبرة في الشأن العام لأكثر من 50 عاماً، لذا أتوقع وآمل أن أمريكا مقدمة على عهد جديد لصالحها ولصالح العالم.
 
وهذا التفاؤل لا يعني أن بادين سينجح في حل جميع المشاكل الدولية المتراكمة، وإرضاء الجميع، فطالما هناك بشر هناك مشاكل، ولأن مصالح الأفراد والناس والشعوب متضاربة، ومشاكل العالم كثيرة، فـ"رضاء الناس غاية لا تُدرك".