قصة قصيرة لـ : روماني صبري 
 
"والله، سنرتاح حين ترصد العيون بشرا لا يرون في أنفسهم أي ما يميزهم عن الآخرون، حقا سنرتاح وتتأبطنا السعادة، حين يتوقف رجال الدين عن شحن رعيتهم بان الجنة خصصها الله لهم فقط، وقتها لن يكون العالم المجنون في مأزق، وليجبر الله بخاطر كل إنسان يحلم بعالم مثل هذا"، بهذه الكلمات اختتم المايسترو هاني عبد العظيم ليلته الماضية، وهو يحدث نفسه، والرجل المشهور والذي أصاب نجاحا عظيما في مجاله، مل مشاهدة أفلام كان يحب مشاهدتها بمفرده، ياللوكسة، فإصبعه السبابة بات ينقر كثيرا على شاشة هاتفه الـ"تاتش"، للخروج من برنامج مشاهدة الفيديوهات، ليشرع بعدها في فتح تطبيق "فيسبوك"، فيكتب منشورات تكشف خبايا أعماله، ليحصد القليل من تعليقات الإشادة، وفي حقيقة الأمر هذا لا يزعجه على الإطلاق، والله يشهد على ذلك، فهو يؤمن أن ذوق الشعب ينحدر لأسباب عدة.
 
بمحض إرادته دون في مذكراته، أن الفنان محمد فوزي رحمه الله، عرفته خيبة الأمل وأشد الحنق، حين قصد شركته الفنية ذات يوما بعد عام 1952، فإذا به يبصر عسكريون، كان واحد منهم صديقا مقربا لجمال عبد الناصر، ظهر جالسا على مكتبه، وبنبرة سعيدة اختص الرجل المغلوب على أمره والذي كان اخبرهم انه يرفض الغناء لأشخاص مهما كلفه الثمن، فقط مصر، قائلا ؛" تم تأميم شركتك، وهذا المكتب لم يعد مكتبك منذ اليوم، كما دون ان الشيخ "كشك" لطالما روج أن الفنانين يعملون لحساب الشيطان، لذلك سيعرفهم بعد الموت عذابا أليما، أيضا كتب انه يحترم ما يعرف الآن بأغاني المهرجانات، ويضيف:" خيرا للشباب الالتفاف حول مطربي هذا النوع من الغناء، بدلا من رجال الدين المتشددين." 
 
 
منذ شهور راح يردد:" اللعنة على الوحدة، والسجائر، هتقتلني بنت اللذينة، ثم راح يتخيل ماذا ستترجم سيمفونيته الجديدة، فتصور أن تعبر الموسيقى عن شخصا فقيرا معدما، ضاق ذرعا من الحياة، فراح في خياله يهز الموت هزا شديدا، ليحدثه معاتبا، وعلى حين فجأة يدركه الأخير، فيتحرر من زي ملكي يزخر بدماء الأبرياء ، فيتبين جسده الأسود، فينزل الرعب بصاحبنا، بعدها يمسك منديلا ليجفف عرق البشري، الذي سيقول له منقبض القلب، انه أنت بجسدك الأسود المخيف، نعم أنت، قولي لماذا لا تكف عن سرقة الأرواح، هيا اجب، لماذا ظهرت في شكل السرطان اللعين لتقتل ابنتي طالبة الثانوية، ولا تلتفت لرعبي، وبعد حديث طويل يضج بالاحترام، يخبره الموت انه ليس من هذا العالم وانه لا يتجلى في صورة مرض، وان قبض الأرواح مهمة أساسية كلف بها، وبناء على ذلك عليه الذهاب للمرض، فيلبي الرجل، بعدها يطلب منه الأخير الذهاب لملاكه الحارس، كونه منشغل في إنزال اشد الألم برجل عجوز تخطى التسعون عاما.
 
 تطوق الدهشة البشري، بعدما يصيح العجوز المعذب على فراشه :" نحن خطاة أبناء خطاة، من نسل ادم وحواء، هيا أيها المرض، واصل يا صديقي ضخي بالعذاب"، ثم ترصد عيناه أخيه البشري، فيختص المرض :" من هذا الحشرة الواقف، يبدو حقيرا... وطالما بشريا لا يجب عليك تركه يتمتع بكامل الصحة والعافية، هيا عاقبه أيضا، يقول هذا فيقع البشري أخيه في الضحك، والحزن والغموض، فيقصد على الفور ملاكه الحارس، فيجده صامتا كالثلج، في النهاية يقرر الرجل فتح عيناه ليواصل العيش في الواقع عاضا إبهامه من الغيظ بقوة، فيركض نحو الحارة، ويأخذ يصفع أول شقي يدركه، على قفاه، وباهنته يخفف الرجل عن نفسه، فترصده العيون في إعجاب.
 
 وحين يقرر الشقي قتله بسكين حاد طالما دسه في صدره، يلتف حوله عدد غفير من أهل الحارة، فيكبلونه، بعدها يشق الجمع شيخ الحارة، ويوجه بصره صوب الغاضب، ويلبث صامتا قرابة 5 ثوان، بعدها يتجه إليه ويختصه بأقذر الشتائم، ويتابع بغير وقاحة ! :" حرام عليك يا ابن التيس يا رقيع، الراجل بنته لسة ميته، يمكن عقله خف"، فتهدأ الموسيقى وتستحيل عذبة، عذبة جدا، فيقول الشقي بعدما هدأ غضبه حديث شيخ الحارة:" أما أنا معفن وزبالة أزاي تفوتني دي، حقكم عليا، فيتجه صوب بطل السيمفونية نادما، منكس الرأس، وكأن لدغته أفعى ولا أمل في شفاءه، فيقول :" اضربني تاني لو ده هيريحك، وبنتك أكيد في مكان أحسن عند اللي خلقها"، فيقصد الرجل منزله، هائما على وجهه، تارة يقول انه سعيد كونه اعتدى على بلطجي، وتارة أخرى ينهزم أمام نفسه، كونه لم يستفزه جيدا ليقتله، فبقي على قيد الحياة، وهو يخشى الانتحار، يخشاه جدا رعبا من الخلود في النار، تأخذ تصرخ إحدى الكمنجات وحيدة، بعد توقف كل الآلات الموسيقية، وبهذا يختتم المايسترو هاني عبد العظيم عمله الفني الجديد، والذي سيحمل عنوان " لأنـنـا لــم نخـلـق مـن الـثلـج." 
 
حقا ستكون السيمفونية حديث العام، فعندما ينكشف جوهرها، سرعان ما ستثير غضب المتطرفين، فيتهم بالكفر كالعادة، على أي حال لازال المايسترو بارعا في استفزاز هؤلاء بأعماله، والله الذي لا اله غيره، هذا الفن يرضيه ويبدي كثيرون رضاهم عنه، حقا يرضيه كالبيانو المستقر بصالة فيلته، وبواسطته الف أعذب السيمفونيات، وأكثرها قوة، لم تنتهي القصة، فالرجل يواصل العزف على البيانو، وينشر دروسا حوله للمبتدئين، متذكرا كم كلفه الهروب من النرجسية، وهو لايزال يؤكد أن الموسيقى جعلته يحب كل البشر، ويصوم عن السخافات، يقول انه ربما يكتب سيرة حياته في كتاب بعنوان " بالعزف أدركت قلب الله".
 
وبإمكانكم أن تتخيلون انه يكذب، وهو يعلم كل العلم انه يكذب، لذلك يستشهد بين نفسه، بالحاج مصطفى، بواب العمارة التي شهدت طفولته، حين سمعه  ذات يوما دون قصد، يحدث زوجته على أريكة بالمدخل، وهو يحاول إدخال الخيط في خرم الإبرة لها، كونها ضعيفة البصر مثله، حتى نجح بعدما تكبد اشد المعاناة، قائلا :" والله وعرفتي تخليني إنسان طيب يا أم العيال لولاك كان زماني قاتل اخويا وبقضي الباقي من حياتي في السجن، وتابع راضيا تعلو وجه ابتسامة صادقة، خدي الإبرة لضمتها"، وعلى الفور قطع الرجل حديثه، حين أدرك الفتى الصغير ينزل الدرج، ومهما يكن من أمر حتى لو لم يعدل حب الموسيقى من سلوكه وانه كان سيصل لذلك في أي مهنة أخرى، كون الإنسان فقط القادر على علاج نفسه من الشرور، فيكفيه انه يحب الموسيقى، والإنسان حين يحب ويتعلق بشيئا يدين له بالجميل، هذا جائز وتقبله طبيعتنا البشرية.
 
لطالما شدد على انه بشريا في النهاية، ولا يرضيه المجتمع الجديد، لكنه يجاريه كثيرا بغير قلة ذوق، وذات مرة قال حين حل ضيفا على برنامج فني، افتح الثلاجة ، تناول الطعام بيدك واطفح وستجد العالم كله يشاهدك، هذا هو عالم اليوم، كما قال انه يحب التعبير عن هؤلاء البشر الذين أنهكتهم التجارب فقتلوا أنفسهم قبل أن يعرفهم الموت، بعدها شرع ينتقد الرئيس المؤمن الراحل محمد أنور السادات قائلا :" سمح للمتشددين بغسل عقول الملايين، ليرأوا في النساء السافرات بناتا للشيطان. 
 
وحول راية في الفن القائم على الوعظ والإرشاد، قال : أعوذ بالله، قال ذلك دون أن يصيح، في ذلك اليوم بعد عودته لفيلته، طفح عليه سلام شديد وكانت عيناه تضجان صراحة، ثم رقد على أريكته، بعدما تحرر من ملابسه، عدا سروال ابيض، مرت دقائق وراح يوجه بصره في ضيق على شاشة التلفاز، ليشاهد حديث الفنان حازم صبحي عن الأخلاق وجهوده في الدفع بها عبر أعماله، حتى تأبط الاحترام المجتمع ، فقال في نفسه:" حقا يا حازم ، إذا لما وصلنا لهذه الوكسة، انه يحمل الفن فوق طاقته، ليتباهى بأخلاقه الملعونة، حتى يواصل استبداده على الآخرين، كونه يرى نفسه مميزا".
 
  أغلق التلفاز بريموت التحكم، وراح يتذكر الإعلامي زين وهبة، حين ضحك ضحكة مجلجلة، والأخير رجل يقدس الطعام فيأكل بنهم على الهواء، وكان ذلك حين ظهر ببرنامجه مرتديا عباءة بيضاء، واعتمر قبعة كورشية تحمل اللون ذاته، وراح يذبح عجلا ضخما داخل مدبح، فصفق له الحاضرين من العاملين، والذين قيدوا العجل جيدا، واحكموا قبضتهم على رقبته قبل نحره، وكان ذلك لقرب حلول عيد الأضحى، فقال :" هذا الإعلامي النكرة، بات يناهض أعمالي، ووقف في صف حازم، ورغم إنني استحلت إلى إنسانا نباتيا، لم أشن عليه هجوما ذات يوما وأقول كيف لرقيع مثله، بث فيديو لذبح حيوان على الهواء، هذا الوغد مجرم مثلي. 
 
يقول وهبة مرارا وتكرارا، انه لكان ليواصل الإشادة بأعمال المايسترو، كما كان يفعل في الماضي، لولا أن الأخير، بمحض إرادته قرر منذ سنوات فك طلاسم أعماله، عدا "الموسيقى التصويرية لأفلامه"، ربما يريد المايسترو صفع المجتمع بفنه، ربما، طالما لا يسمح بحل العديد من المشاكل، فرجل دين شاب، بات نصيرا للمتحرشين، ويؤكد ذلك إلقاءه اللوم على الفتيات بعد كل حادثة، كونهن ينزلن للعمل أو لشراء شيئا، وهو أيضا يصف المنتحرين بالكفار، ويحكي برنامجه عن كيف سيتفنن الله في تعذيبهم.
 
اليوم في المساء، عرف الرجل المطلق عطسا شديد، جراء أصابته بالأنفلونزا الموسمية، فسلم نفسه للنوم، منذ خمسة عشر عاما انفصل عن زوجته كونه خانها مع إحدى المعجبات، نعم خانها، فبات ينظر لنفسه بعدها على انه عفن، قذارة مستنقعات، ويؤلمه كثيرا انه تعمد إخبارها بأنه مارس الجنس مع معجبة بالتراضي، على آمل أن تغفر له حتى يطهر نفسه من الخيانة، لكنها لم تفعل، بل بصقت في وجهه، وغادرت الفيلا برفقه ابنتهما الوحيدة، قال في اليوم ذاته، أيعقل أن تخون زوجتك يا صاحب الخمسة وأربعون عاما!، كذلك لا يسامح المايسترو نفسه على قتله "كتكوت"، حين بلغ أربع عشرة عاما.
 
 حينذاك كان في زيارة لمنزل جدته أم أبيه، وكانت رحمها الله امرأة تعشق تربية الطيور فوق سطح منزلها، في المساء تساءل لماذا" لا يسحق حذائي الجديد كتكوت من كتاكيت جدتي، فشرع سعيدا ليجرب، وبعد إتمامه ما أراد، قال :" هل سأكون عدوانيا مثل أبي؟، وهو ما لم يحدث، والرجل تارة يرى نفسه مجرما، وتارة يقول لا أنا الآن أفضل بعدما غلبني الشعور، هل طهرني الاكتئاب ، ولماذا لا ينجو الجميع ؟!"، حقا الموهبة العظيمة كارثة خطيرة تحل بالإنسان وكل البشر موهوبون في شيئا ما." 
 
"انتهت القصة"