بقلم: د. مصطفى النبراوي
مارسنا في الجزء الأول من هذا المقال مستوى من مستويات النقد الذاتي، عرضنا من خلاله أهم ما تعاني منه الجامعة المصرية من أمراض –مما جعلها تتدهور إلى مستواها الحالي– وسوف نعرض في الجزء الثاني ما نراه خطوط عريضة للحل إذا خلصت النوايا وتوفرت الإرادة. على أن يؤخذ في الحسبان معيار في غاية الأهمية وهو أن المشاكل المركزية كمشكلة التعليم في مصر لا تُحل مركزيًا بل يجب التعامل معها جزئيًا وبخطوات تراكمية تؤدي في النهاية لحل المشكلة المركزية.
* خطوط عامة لحل مشكلات الجامعة المصرية:
1- إعادة هيكلية النظام التعليمي كله من خلال نظرة متكاملة والتقليل من الازدواجية فيما يقدم من خدمة تعليمية، نحن ضد تنميط التعليم ولكننا أيضًا ضد التنوع الذي قد يُحدث خلل في الوحدات الأساسية المكونة للنسيج الاجتماعي.
فمما لا شك فيه أن تقديم نوعين من الخدمة أحدهما مدفوعة الأجر والأخرى مجانية داخل كيان جامعي واحد سوف يحدث شروخًا اجتماعية تؤثر سلبًا في متانة النسيج الاجتماعي.
2- ربط خطة التعليم الجامعي بخطط التنمية من خلال رصد دقيق لاحتياجات التنمية من الموارد البشرية .مع ما يتطلبه ذلك من تطوير للمناهج الدراسية وأيضًا طرق التدريس في اتجاه التعليم المتخصص وليس العام. وسؤالي هنا لأمانة السياسات أين مصر من مجال البايوتكنولوجي؟؟؟؟؟
3- التعامل مع الجامعة على أنها مؤسسة تعليمية اقتصادية استثمارية لأن الاستثمار في عقول البشر هو أعظم وائمن وأنظف استثمار، لذا يجب إعادة النظر في مجانية التعليم الجامعي المزعومة بما لا يخل بحق التعلم والنبوغ. مع تبني التفوق والموهبة سواء من قبل الدولة أو المجتمع وأن يعود للتعليم مرة أخرى أهميته كأحد أهم مفاتيح الترقي وتحسين مستوى المعيشة وأن التفوق والنبوغ هو أساس التمايز.
وهنا أوجه سؤالي للذين يتباكون على مجانية التعليم الجامعي... أين هي؟ وإذا كانت موجودة بصورة أو بأخرى.. ما هي الخدمة التي تقدمها للعلم والتعليم والوطن؟؟ نعم مازال التعليم الجامعي في أوروبا (ألمانيا وفرنسا) يقدم مجانًا ولكن يجب ألا ننسى دور المجتمع المدني والمؤسسات الصناعية ورجال الأعمال والخير في دعم وتقديم الجزء الأكبر من هذه الخدمة وهو الدور الغائب تمامًا في مصر، بالإضافة لذلك يجب ألا نغفل أن هناك فرق كبير بين التعليم الجامعي الأوروبي المجاني والتعليم الجامعي الأمريكي مدفوع الأجر من حيث الإسهام في النهضة العلمية التي نعيشها الآن.
4- لابد من البحث عن مصادر تمويل جديدة للعملية التعليمية والبحثية بالجامعة سواء من خلال الجمعيات الأهلية / رجال الأعمال / البنوك... وإن كنت أستطيع أن أؤكد على أن مشكلة التمويل ليست هي السبب الأول في إشكالية التعليم الجامعي في مصر وفي هذا الخصوص فلتسمح لي أمانة سياسات الحزب الوطني باقتراح الخطوات التالية لحل مشكلة التمويل سواء على مستوى الجامعات القائمة أو للجامعات المزمع إنشائها:
أولاً: الجامعات الحكومية القائمة
إلغاء كل ديون الجامعة لدى البنوك والشركات أو الحكومة.
تشكيل مجلس أمناء للجامعة يتولى إدارتها من رجال أعمال ومستثمرين وشخصيات عامة، إدارة علمية لمشروع استثماري لا يهدف للربح ولكنه يهدف إلى تخريج كوادر بشرية مؤهلة تستطيع أن تنافس في سوق العمل الدولي، بالإضافة إلى المساهمة الجادة والمفيدة في مجال البحث العلمي.
تعديل قانون الجامعة بحيث يسمح بتحصيل رسوم تعادل الخدمة التعليمية المقدمة.
ثانيًا: الجامعات المزمع إنشائها من قبل الدولة
تقدم الدولة البنية الأساسية للجامعة الجديدة (الأرض/ المياه / الكهرباء / الغاز / البناء).
تشكيل مجلس أمناء للجامعة يتولى إدارتها من رجال أعمال ومستثمرين وشخصيات عامة، إدارة علمية لمشروع استثماري لا يهدف للربح ولكنه يهدف إلى تخريج كوادر بشرية مؤهلة تستطيع أن تنافس في سوق العمل الدولي، بالإضافة إلى المساهمة الجادة والمفيدة في مجال البحث العلمي.
تعديل قانون الجامعة بحيث يسمح بتحصيل رسوم تعادل الخدمة التعليمية المقدمة، يضاف إليها ما أنفقته الدولة في عملية الإنشاء.
ترد الجامعة ما أنفقته الدولة للحكومة في غضون من خمسة إلى عشر سنوات لتدويرها مرة أخرى في بناء جامعة جديدة.
5- نحن كذلك في حاجة ملحة لتعديل قانون الجامعات مرة أخرى من اجل تشجيع رجال الأعمال والخير على الانخراط والمبادرة في الدخول في هذا المجال نظرًا لحاجة المجتمع وخصوصًا في ظل الانفتاح على العالم إلى كوادر متعلمة ومدربة على مستوى دولي مما يسهل انخراطها في العمل بسرعة.
وسوف أضرب هنا مثلاً بالتجربة التركية كما أوضحها لنا الدكتور منير حداد الباحث بصندوق النقد الدولي بواشنطن حيث تم بها إقرار "قانون المؤسسات الجامعية" (Foundation University Law) سنة 1982، الذي أقر بإنشاء "مؤسسات غير ربحية هدفها بناء مؤسسات التعليم العالي".
ونشأت على هذا الأساس أول جامعة خاصة في البلاد وهي "جامعة بيلكنت" سنة 1984 على يد رجل الأعمال إحسان دوغرامسي لتصبح أشهر الجامعات التركية في الوقت الحاضر. ومع نجاح التجربة تم تطوير الإطار القانوني ثانية سنة 1991 مما أفرز تأسيس جامعات جديدة بلغ عددها 27 جامعة حاليًا. وأصبح تكوين الجامعات الخاصة العمل الخيري الأكثر شعبية بين أثرياء البلاد.
لعبت هذه الجامعات دورًا أساسيًا في وقوف هجرة العقول بل شجعت على عودة من هاجر منها، حيث عاد نصف الأساتذة والباحثين في هذه الجامعات من الخارج، جلبتهم الرواتب المجزية التي تقدر بثلاثة أضعاف ما يوفره القطاع الحكومي. وغالبًا ما توفر الجامعات الخاصة الجديدة في تركيا مناهج دراسية في تخصصات ذات طلب كبير في سوق العمل.
لكن الإضافة النوعية الأهم للتجربة التركية تتمثل في اعتمادها المناهج الأمريكية المتقدمة للتعليم، مع استعمال اللغة الإنجليزية كأداة للتدريس.. وانعكس هذا على قدرة الخريجين على الالتحاق بالجامعات الأمريكية المرموقة لمتابعة الدراسات المتقدمة لشهادات الماجستير والدكتوراه، وبالتالي إنتاج نخب الغد التركية.
كما تبين من نتائج الاستبيانات أن خريج هذه المؤسسات يحصل على معدل عرضين في سوق العمل، وهي نتائج استثنائية مقارنة بتفشي ظاهرة ما يسمى ببطالة حاملي الشهادات الجامعية في المنطقة العربية.
حققت الجامعات الخاصة التركية تقدما هاما على صعيد تطوير البحث، وذلك بالشراكة مع الجامعات الأجنبية المرموقة ومع القطاع الصناعي الخاص داخل الدولة. وعلى هذا الأساس ارتفع عدد البحوث الأكاديمية المنشورة من 450 خلال 1982 إلى 1200 بحثًا في السنة الأخيرة.
كما ساعد القطاع على زيادة كبيرة في عدد الطلبة الأتراك الذين يواصلون تعليمهم في أرقىَ الجامعات الأمريكية الذين بلغ عددهم 15 ألفًا، بالإضافة الى40 ألف طالب في الجامعات الأوروبية.
تمثل التجربة التركية نموذجًا ناجحًا على الصعيد الاجتماعي، حيث ساهمت في مساعدة المتفوقين من ذوي الدخل المحدود. فالاشتراك السنوي للتسجيل في جامعة "بيلكنت" يفوق 10 آلاف دولار ولا يتجاوز في معظم الجامعات الخاصة الأخرى مبلغ 3 آلاف دولار. وهذا المبلغ الأخير يتناسب مع معدل تكلفة تكوين الطالب في جامعات القطاع العام، وهو أقل بكثير من تكلفة الطالب التركي المسجل في الجامعات الأمريكية المقدر بحوالي 25 ألف دولار، مما وفر الكثير على الأولياء وحال دون خروج الأموال إلى الخارج، لكن تكلفة الجامعات الخاصة بقيت خارج مقدرة الطبقات محدودة الدخل.
وتمت معالجة هذا الوضع بتوفير منح دراسية للطلبة المتفوقين، وهي طريقة معروفة تهدف الجامعات الخاصة من ورائها تحسين سمعتها في المجتمع والارتقاء بمستواها التعليمي.
استفادت الجامعات الحكومية في تركيا هي الأخرى من النظام الجديد بحكم المنافسة وبالاستفادة من مساهمة الإطار التعليمي للجامعات الخاصة في البرامج البحثية.
أننا في اشد الحاجة اليوم إلى استلهام التجارب العلمية الناجحة سواء من تركيا أو الهند والصين وتجارب باقي النمور الآسيوية الأخرى.