بقلم : يوسف سيدهم
قضية جدلية طالما حيرت الكثيرين من الساسة والوطنيين ومعهم علماء التاريخ والباحثون.. إنها قضية الاحتفاء بالتاريخ الوطني وهل يقتصر ذلك علي جوانبه المضيئة وعظائم الإنجازات أم يمتد ليشمل رصد وتوثيق الأحداث بحلوها ومرها, بانتصاراتها وكبواتها؟, وبما أن التاريخ هو تاريخ مصر فهل يكون المعيار تسليط الضوء علي حكامها أم علي شعبها أم علي الأحداث التي أثرت في مسيرتها وشكلت ملامح حضارتها؟… هل يتم التعتيم علي الجوانب السلبية أم يكون هناك التزام صارم بتوثيق وتأريخ سائر الأحداث دون انحياز أو انتقاء؟… فالتاريخ ثابت لا تشكله أهواء أو مشاعر, ومساره لا يتجزأ ولا يتجمل.
قضية جدلية طالما حيرت الكثيرين من الساسة والوطنيين ومعهم علماء التاريخ والباحثون.. إنها قضية الاحتفاء بالتاريخ الوطني وهل يقتصر ذلك علي جوانبه المضيئة وعظائم الإنجازات أم يمتد ليشمل رصد وتوثيق الأحداث بحلوها ومرها, بانتصاراتها وكبواتها؟, وبما أن التاريخ هو تاريخ مصر فهل يكون المعيار تسليط الضوء علي حكامها أم علي شعبها أم علي الأحداث التي أثرت في مسيرتها وشكلت ملامح حضارتها؟… هل يتم التعتيم علي الجوانب السلبية أم يكون هناك التزام صارم بتوثيق وتأريخ سائر الأحداث دون انحياز أو انتقاء؟… فالتاريخ ثابت لا تشكله أهواء أو مشاعر, ومساره لا يتجزأ ولا يتجمل.
هذه القضية الجدلية لها انعكاسات لا حصر لها في التاريخ المصري ولا يمكن أن يستقيم استعراضها أو الفصل فيها في مساحة هذا المقال, لكن ما يجعلني أتعرض لها, ما يطفو علي السطح مرتبطا بها بين الحين والآخر… ومثال علي ذلك ما تنشره وطني علي صفحات هذا العدد تحت عنوان: تمثال ديليسبس يستقر في مقره الجديد في المتحف العالمي, والمعروف أن التمثال المذكور هو للمهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس, أول من درس مشروع ربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط عن طريق شق قناة تصل بينهما وتقوم بدور الشريان البحري لحركة النقل والتجارة لاختصار المسافة والزمن بين الشرق والغرب والتي كانت تقتضي الالتفاف حول أفريقيا عند أقصي جنوبها عند رأس الرجاء الصالح والاتجاه شمالا إلي البحر المتوسط عبر مضيق جبل طارق.
ديليسبس, هذا المهندس الفرنسي الذي شغل بمشروع قناة السويس ورأس فريق الباحثين الذين قاموا بأعمال الرصد والتصميم, يعد هو الأب الروحي للمشروع, وهو الذي بدأ بعرضه علي عباس حلمي باشا حاكم مصر في أربعينيات القرن التاسع عشر لكنه فشل في إقناعه به, ثم عاد ليعرض المشروع علي سعيد باشا الذي حكم مصر من بعده ونجح في إقناعه بجدواه وحصل منه عام 1854 علي فرمان يمنحه عقد امتياز حفر وتشغيل القناة, ذلك الامتياز الذي يمتد إلي 99 عاما من تاريخ انتهاء العمل في شق القناة وافتتاحها وهو ما تحقق خلال عهد الخديوي إسماعيل عام 1869… وتخليدا لدور ديليسبس قررت شركة قناة السويس البحرية وهي شركة أجنبية تتوزع أسهمها بين إنجلترا وفرنسا إقامة تمثال له يوضع عند مدخل القناة الشمالي جهة بورسعيد, وتم تدشين ذلك التمثال عام 1899 في الاحتفال العالمي بالذكري الثلاثين لافتتاح القناة… وظل هذا التمثال متربعا علي موقعه هذا علامة بارزة علي مدخل القناة وعلي المهندس الفرنسي الذي كان وراء هذا المشروع العظيم, طوال 57 عاما حتي عام 1956 حين قام الرئيس جمال عبدالناصر بإعلان قرار تأميم شركة قناة السويس وبسط السيطرة المصرية عليها, الأمر الذي استشاطت له غضبا كل من إنجلترا وفرنسا, وأدي إلي وقوع العدوان الثلاثي علي مصر الذي اشتركت فيه مع الدولتين إسرائيل… وكان أن انتهي العدوان الثلاثي بانسحاب القوات المعتدية وانتصار مصر التاريخي واحتفاظها بالقناة, وكان من تبعات تلك الحرب أن شعب بورسعيد ثار علي وجود التمثال عند مدخل القناة بالمدينة وما يمثله من تاريخ استعماري مرتبط بكل من إنجلترا وفرنسا وطالب بالتخلص منه وإنزاله من علي قاعدته علي أن يوضع بدلا منه تمثال يمثل الفلاح المصري الذي يعتبر البطل المجهول وراء حفر القناة والذي تم تسخيره في هذا المشروع واستشهد منه الآلاف.
ولأن القضية لا يمكن أن تعالج بالانسياق وراء المشاعر والانفعالات, لم يكن ممكنا التخلص بالكامل من تمثال ديليسبس أو محو دوره التاريخي وراء رؤية وتصميم وإتمام مشروع القناة… صحيح أن الوازع الوطني ينحاز ويؤيد فكرة وضع تمثال للفلاح المصري فوق القاعدة التي كانت تحمل تمثال ديليسبس, لكن تقرر نقل التمثال -المغضوب عليه من أهالي بورسعيد- إلي موقعه الجديد في متحف قناة السويس العالمي بمحافظة الإسماعيلية ليكون ضمن المجموعة المتحفية التي توثق وتخلد مشروع القناة منذ نشأتها وحتي افتتاح الرئيس عبدالفتاح السيسي لمشروع ازدواج المجري منذ عامين.
التحقيق المنشور هذا العدد يوثق لتاريخ عظيم تفخر به مصر عن قناة السويس بحلوها ومرها, بالدور الأجنبي والمصري فيها وهو تاريخ لا يمكن تجزئته بالاحتفاء ببعضه والتبرؤ من بعضه الآخر.. إنه جزء عزيز من تاريخ مصر الذي يحتشد بنماذج لا حصر لها تعكس استراتيجية موقعها وعظمة شعبها.