بقلم: محمود عرفات
هذه الأوراق من ملفات الإسلام السياسي شائكة ملتبسة جداً بحكم كونها جزء من عقيدة البطولة الاسلامية لدى رجالات الاسلام السياسي ، لكن تظل الحقيقة الموجودة في مذكرات صناع الحدث و مراسلات سفارات الدول الكبرى و الاوراق المكشوفة بحكم مرور السنين تظل كلها حقيقة تصف الكثير من مآسي هذا الملف و تعريه لمن يرغب في المعرفة و قد اجلت حلقتي التجربة الاردوغانية و التجربة الاخوانية للإسبوع المقبل لأن هذا الملف بالذات سيكون بداية لنفهم كيف يفكر الاسلامي و كيف يستغله الامريكي و هذا جوهر المقالين القادمين إن شاء الله..
*في البدء كانت فيتنام:
إبان الانغماس الامريكي في مستنقع فيتنام و فنهاية الستيننيات بدأت المخابرات الامريكية عمليات لزعزعة استقرار الجمهوريات الاسلامية التركية السوفيتية (كازخستان،تركمانستان،أذربيجان الخ) و ذلك بدعم كبير من الخليج العربي و بالتحديد السعودية و ذلك مروراً من أراضي أفغانستان ضمن خطة من الخمسينيات تهدف لحصار السوفييت في مكانهم عبر استغلال المشاعر الدينية لضرب الالحاد شكلا و في الموضوع استغلال الدين لتحجيم الشيوعية و اسقاطها لاحقاً ، الطريف أن بيرجينيف عرض الامر أكثر من مرة على عبد الناصر و طلب منه تحذير السعوديين دون أن ينتبه لحقيقة أن ما يحدث إستدراج امريكي للسوفييت للقيام (بعمل ما) ضد أفغانستان لتكون فيتنام سوفيتية ، لاحقا و في 3 يويو 1979 قام زبجنيو برجينسكي مستشار شئون الامن القومي الامريكي بإصدار توجيه رئاسي من كارتر بتقديم كل المساعدات الممكنة لضرب مؤيدي السوفييت و المصالح السوفيتية بأفغانستان و كانت هذه الخطوة شكلا لمواجهة النفوذ السوفيتي المتصاعد لكنها عمليا كانت لجذب السوفييت لتدخل عسكري و قد كان ، لاحقا دعت الحكومة الشيوعية الافغانية السوفييت للتدخل فتدخلوا لحسابات خاصة لديهم و هم لا يشعرون أن فخاً امريكياً قد نصب لهم بجدارة ، كانت أفغانستان فخاً امريكياً إسلامياً للسوفييت لكن لم تكن حربه حرب جيوش بل حرب إستنزاف بشر و مصلحة و الاخطر حرب صناعة أصوليين مستقبليين، ألقتهم امريكا و السعودية و مصر في أول صفيحة قمامة بعد انسحاب السوفييت من البلاد.
*داعموا (الجهاد):
وزعت المخابرات الامريكية و مستشارية الامن القومي الأدوار كالتالي : السعودية داعم مالي و بشري ، باكستان قاعدة لنقل المجاهدين لأفغانستان و للنقل المال ، مصر لتقديم السلاح من مخازنها السوفيتية القديمة إذ لا بد أن يقاتل المجاهدون بسلاح سوفيتي لنفي شكلي للتورط الامريكي ، الدول الثلاثة وافقت لأسبابها الخاصة..
فمصر تريد سيولية مالية و بالطبع بيع السلاح مفيد لها و كذلك دعم (الجهاد) يقوي الصلات بالامريكان و يرفع رأسها امام العرب و المسلمين الذين يتهمونها بالخيانة بسبب السلام و السادات مسرور بأي شئ يضرب السوفييت -!- و الاهم التخلص من الجهاديين المصريين في أفغانستان للأبد -و كان هذا وهماً- و لعل ما دفع مصر الى هذا المسار أنها منغمسة للنخاغ في بيع بقايا السلاح السوفيتي للعراق البادئ في حربه مع إيران فكانت تجارة السلاح وقتها حقيقة تقوم بها وزارة الدفاع المصرية ، لذا تم فتح مخازن السلاح المصرية للبيع السريع (للمجاهدين) و تم تحويل مطار المنيا العسكري لمطار متخصص في شحن البشر و السلاح لباكستان و تم تخصيص جزء من ميناء بورسعيد للتخزين و الشحن لكراتشي لدرجة استغناء بعض فروع الجيش عن السلاح السوفيتي المستخدم و الاقتراض من أمريكا بالاضافة لثمن السلاح المباع لشراء سلاح امريكي جديد للوحدات التي تركت سلاحها للبيع-!!-بالاضافة لتعديل آليات مصنع حلوان الحربي لصناعة أسلحة بتصميمات سوفيتية مثل AK-47 الخ الخ.
أما السعودية فهي مهيأة بفعل الفكر الوهابي و المصالح البترودولارية و الهلع من ثورة شيوعية تلحق رأس آل سعود برأس آل رومانوف ، لذا فقد دعمت (الجهاد) بالبشر عبر المتشددين الذين كانوا عبء عليها و بالمال الى صندوق دوار في جينيف بقيمة مليار دولار تشارك فيه السعودية و أمريكا -و لهذا قصة مخزيها أذكرها في المقال- و دول اخرى و كان الخطاب الديني الحماسي هو داعم الحركة و جاذب للاسلام السياسي المصري و العربي حتى بات تجنيد و ارسال المتطوعين فخر لدرجة انه اليوم بالقرن ال 21 نجد مرشح رئاسة مصري يفتخر انه كان مورد للرؤوس الجهادية لأفغانستان !!
اما باكستان فهي معقدة التكوين ، مؤسسة العسكر ستوافق على اي شئ تطلبه أمريكا مقابل دعمها بالسلاح أمام الهند المدعومة من السوفييت ، السياسيون خدم لأمريكا يريدون دعم لهم في مواجهة إتهامات الفساد ، الشعب يريد نصرة الاخوة بالجوار ضد الالحاد و طبعاً كان الهدف الاسمى توريط السوفييت بأفغانستان بشكل يفتح باب سمسرة تجارة السلاح و المخدرات و تربح ضباط و رجال اعمال ، بإختصار كانت باكستان مهيأة جدا للدور الجهادي الجديد.
يضاف لهذا الولايات المتحدة الامريكية و التي كانت تقوم ب:
# الدعم السياسي الدولي لصالح (المجاهدين) و المحلي و جمع التبرعات من المسلمين بامريكا و الدعم المعنوي لدرجة صناعة فيلم رامبو الجزء الثاني في جو أفغاني مع عداء في نهايته لل(مجاهدين).
# منح جزء من التمويل لصندوق جنيف الدوار.
# منح 900 صاروخ ستينجر الى ال(مجاهدين) لضرب هليكوبترات السوفييت من عام 1985 مما أسقط عشرات الطائرات السوفيتية عبر الحكومة و بضغط جماعة النسر الحر لعضو الكونغرس نيل بلير الذي منحه الافغان لاحقاً لقب مجاهد -!- و الطريف أن بعد الحرب تبقت مئات من صواريخ ستينجر و عرضوا للبيع على دول منها إيران ففزعت امريكا و هرعت لطلب شراء باقي الكمية كلها بأضعاف الثمن و بيعت لهم مع تعهد بإعادة أي صاروخ يعثر عليه لكن الذي حدث أن ستينجر ذهب لإيران التي طورته لتصنع منه سلسلة صواريخ أخرى لاحقاً !!
* تمويل (المجاهدين):
تم الاتفاق على وجود صندوق دوار في جنيف تموله السعودية و أمريكا و دول أخرى و يمر المال عبر بنك (الاعتماد و التجارة) لأغا حسن العابدي الباكستاني و الذي أقام البنك بدبي بشراكة كمال أدهم مدير المخابرات السعودية و لاحقا الامير تركي بن عبد العزيز و قد انهار البنك و أفلس حين توقف (الجهاد) و هرب صاحبه لباكستان لتتفجر فضائح التحويلات المجهولة و أرباح تجارة الافيون المخصصة لدعم (الجهاد) و لذلك قصة حدثت كالتالي:
السعودية توفر قسمها المالي بلا مشكلات و كذلك باقي الممولين ، امريكا لا تقدر على هذا لأنها مراقبة ماليا من الكونجرس ، وجد ريجان نفسه في مأزق فكيف يسدد المال لصندوق جنيف فأشار علية الكونت دي ميرانش مدير مخابرات فرنسا بأن يحول مضبوطات مكتب مكافحة المخدرات الأمريكي لأفغانستان لبيعها للسوفييت و انهاكهم بادمان جزء منها و تمرير جزء اخر من هناك لباقي دول العالم و تحويل ربحها لدعم (الجهاد) -!!!- ثم لاحقا تم تحويل أرض المجاهدين لمزارع افيون لتنتج ما يقارب ال 9000 طن أفيون جهادي سنويا لدعم المجاهدين بالمال لدرجة أن الفتاوى حللت بيع الافيون لأنه يصدر لبلاد الكفر و حرمت الحشيش لأنه يباع للمؤمنين!!!!!!
*من هم المجاهدون؟
-1- متطوعون من الجماعات الاسلامية التكفيرية في سوريا و مصر و السعودية سهّلت لهم بلادهم (الجهاد) للتخلص منهم وهماً انهم لن يعودوا.
-2-محترفون من ضباط جيش سابقين بمصر و باكستان و السعودية مقابل ربح مال محدد.
-3-متطوعون لا ينتمون لأي تيار إستطاعت المساجد تحويلهم الى قبلة الجهاد لا شعوريا بحيث كانوا اول الضحايا و آخر المنتفعين.
-4- مقاولون انفار للجهاد بعضهم يتطوع للتجنيد في سبيل الله و بعضهم في سبيل المال و بعضهم مجهول كأحد مرشحي الرئاسة في مصر الذي كان يفتخر بأنه يرسل المجاهدين و يعطيهم بطاطين لضرب السوفييت أعداء الامريكان و مورد السلاح الوحيد لأعداء اسرائيل!!!
*إضراب المجاهدين:
إستوقفتني هذه الحالة كثيراً فوسط إعتقاد راسخ لديّ بأن (المجاهدين) شباب مخدوع بانت لي علامات لفكر المرتزقة قد تسلل الى منطقهم و بات محرك لكثير من تصرفاتهم ربما بفعل سنوات الغربة و اعتياد الربح و القوة فهذه الأمور تخالط حتى الجيوش النظامية فما بالنا بالميليشيا الممولة سلفاً من قطب رأسمالي يعد بالجنة في الدنيا و قطب ثيوقراطي يعد بجنة الآخرة ، و كانت حالة الاضراب عن (الجهاد) منتصف عام 1986 العلامة التي لفتت إنتباهي أكثر من غيرها من العلامات الأخرى ، في هذا الوقت تسلل لهم شعور بأن مصيرهم -و ثبت أن هذا حقيقي لاحقاً- مرتبط بالحرب الافغانية و فور انتهائها فلا مستقبل لهم و الضياع و ربما السجن في الانتظار ، سمعت الولايات المتحدة بالاضراب و صدمت متصورة اياه تسلل سوفيتي للمجاهدين فأعلنت أنها سوف تقدم 300 جرين كارد سنوياً للمجاهدين -و كانت تعلم أن الحرب على وشك الانتهاء- لدخول أمريكا و بالتالي أفضل 300 مجاهد مبشرين بالجنة الامريكية -!- و كانت للمفارقات الكوميدية أحد هؤلاء هو عمر عبد الرحمن الذي حصل على الجرين كارد كمكافأة له لتحميس المجاهدين ثم فوجئوا به يحرض على أمريكا من داخل أمريكا فاعتقلوه لارتباطه بإعمال إرهاب هي نفسها تقريباً الاعمال التي اعتاد عليها إبان ال..(جهاد) !
كانت الحرب الافغانية إشار الى :
-1- الاسلام السياسي طفولي تستثيره الشعارات الدينية و لا يقدر على حكم دولة تحتاج للحسابات المنطقية و الدراسات و تحقيق معادلة ربحية مادية او معنوية قبل أي تصرف.
-2-الاسلام السياسي خادم للمصالح الامريكية في كل مكان عبر شعارات أصولية تواجه الشيوعية و لاحقا شعارات دينية تضرب أي نظام يعادي مصالح الولايات المتحدة.
-3-الاسلام السياسي هو مصدر أساسي لتمزيق و تقزيم كل البلاد المناهضة للولايات المتحدة و الثروة البترودولارية في خدمة السياسة الامريكية و مسخرة لها بأفغانستان و كوسوفو و غيرها بينما في فلسطين مثلا حيث الخطوط الحمراء يختفي المال و لا يظهر إلا بأمر امريكي لشخصيات محددة.
-4-الاسلام السياسي جاهز لأي دور بأي مكان لخدمة الغرب فهو أصلا متفق معهم اقتصاديا ثم سياسيا حيث لم نجد تنظيم واحد اسلامي معادي للغرب أو مجاهد بفلسطين باستثناء الاسلام السياسي الفلسطيني.
-5- تجربة ليبيا و سوريا تؤكدان أن الجانب الأصولي المسلّح مازال في خدمة الولايات المتحدة و بدون الخوض في تفاصيل فالارهاب الذي يقاتل في سوريا اليوم متدثراً بثورة هو نفسه الذي خلع القذافي -و بنفس الشخوص ربما كعبد الحكيم بلحاج- و غداً سيكون منبع إرهاب يضرب المنطقة في تكرار لما تلى أفغانستان و البوسنة.
..
نهايةً:
مع كوني لست شيوعياً إلا أن السياسة كما تعلمناها تشير لحتمية ألا تمارس أي عمل بلا ربح مادي أو معنوي يفيدك و نحن لم نستفد برحيل السوفييت بل تضررنا من الانفراد الامريكي بالعالم بلا قطب منافس حتى لو كان قطبا سوفيتيا حالته سيئة فنحن رفضنا استقلال كوسوفو لحسابات واضحة بينما الاسلام السياسي بغباء أيّد و ما الى ذلك من النماذج التي توضح مصيرنا لو حكمنا الاسلاميون ، إن حالة أفغانستان التي اختلطت فيها الاموال البترودولارية بالسياسة و البارود لخدمة المصالح الامريكية و ضرب التوازن الهام لنا هي حالة متكررة في مقالات قادمة إن شاء الله لتفضح طبيعة عمل الاسلام السياسي الموالي للغرب عملاً المهاجم له علناً الساجد له سراً ، إن (الجهاد) بأفغانستان ضرّنا و أربح أمريكا و مازال الاسلام السياسي يفتخر و نحن لا ننتبه أن يفتخر بالغباء السياسي الكامل.