عاطف بشاي
هو لؤلؤة ثمينة من لآلئ الإبداع الفريد فى تاريخ السينما المصرية.. ودرة باقية فى أحداق الفنون الراقية.. ونهر من العطاء الفنى الذى لم ينضب ولم يغب عبر عقود من الزمان.. فقد ظل يعدنا ويفى بالوعد بكنوز ساحرة وهدايا باهرة.. وثمار مدهشة من أفلام عظيمة المحتوى والقيمة والطرح.. تصدم الوعى فى وعيه.. وتهز الأفئدة فى أعماقها.. فهو يغرس رمحه فى صدر العصر.. فيكشف الزيف ويسقط الأقنعة من فوق الوجوه الشمعية والعيون الزجاجية.. إنه مبدع يتعمد بماء الجرأة والجسارة.. يخوض بشجاعة آسرة معارك دامية ضد التخلف والقبح والظلم الاجتماعى والفساد السياسى، فيحرق جسور الدعة والطمأنينة لدى المتلقى ويلقى به فى أتون خطر المعرفة ودهشة الأسئلة، ويقفز فوق الأسلاك الشائكة ويخترق كل الخطوط الحمراء.. حيث لا يجيد التنكر ولا يعرف المساحيق المضللة.. لقد ظل «وحيد حامد» طوال تاريخه الفنى الخصب يقف على يسار السلطة الغابرة خلال ثلاثين عامًا من الحكم البائد يكشف عوراتها ويعرى فسادها وينحاز إلى مجتمع الفقراء الذين يعانون من شظف العيش والظلم ويتوقون إلى عدالة اجتماعية مفتقدة فى مجتمع طبقى بغيض.

وكانت أفلامه الشهيرة المتتالية التى قام ببطولتها «عادل إمام» وأخرجها «شريف عرفة».. «الإرهاب والكباب»، «المنسى»، «طيور الظلام»، «اللعب مع الكبار»، «النوم فى العسل».. بالإضافة إلى «البرىء» إخراج عاطف الطيب.. و«الغول» و«الهلفوت» و«كشف المستور» و«عمارة يعقوبيان» و«ملف فى الآداب».. تعتبر هذه الأفلام من أهم علامات السينما المصرية فى تاريخها كله.. حيث انتصر فيها لقيم العدل الاجتماعى.. وعالج قضايا الواقع السياسى وحقوق أبناء الفقر فى حياة كريمة.. وتصدى لدعاوى التخلف والرجعية التى تمارسها الجماعات الإرهابية بجرأة بالغة.. والتى ما لبثت أن أعلنت الحرب المقدسة عليه وعلى «عادل إمام» لوأد حرية التعبير وتطهير الدراما المصرية من «الدنس» و«الفاحشة».. فزعموا أن «بابا نويل» البسطاء عادل إمام من خلال سيناريوهات ذلك المارق الآثم «وحيد حامد» الذى يحمل هداياه من شرائط دعابات ملونة وألعاب بهجة ساخرة هو «أبو لهب» شرير يزدرى الدين.. بينما هم فى الحقيقة الذين يزدريهم الدين ويزدرى فقه المصادرة والتحريم وفرض الوصاية والجهامة وحصر الدين فى قشور الزى والمظهر والطقوس.

والحقيقة أن تلك الأفلام العظيمة التى صيغت بمهارة فائقة من خلال بناء درامى «تراجيكوميدى» استطاع فيها وحيد حامد أن ينتزع الضحكات من رحم تلك الايام الصعبة ويفرج عن كروب البسطاء رغم أنهم مصلوبون على حائط الأحزان.

إنه تاجر سعادة بارع فى صياغة الضحكة فى مدائن البكاء.. وموهوب فى مزج المرح الخلاب بالخبز اليومى المبلل بالخوف والدموع.

لقد توحد المتفرجون مع سينما «وحيد حامد» وأحسوا أنه لسان حالهم ومتحدث باسمهم.. وشعر البسطاء أنه و«عادل إمام» يشاركانهم همومهم وكسرة خبزهم الجافة وأملهم فى غد أفضل حالًا يشعرون فيه بأمن ضد زمن غادر.

وفى الدراما التليفزيونية- ورغم قلة أعمال «وحيد حامد» بها (أحلام الفتى الطائر- أوان الورد- سفر الأحلام- العائلة- الجماعة) فإنها تمثل قيمة كبيرة.. ولا تقل أهمية بمحتواها الفكرى والفنى عن كلاسيكيات التليفزيون المميزة والتى عقد بموجبها عقدًا مع المتفرج على التوحد والاندماج والاشتباك مع قضايا عصره الملحة.. وقد نجح فى «الجماعة» نجاحًا كبيرًا فى اختيار أسلوب السرد المناسب.. وصنع تلاحمًا عميق الدلالة بين الشكل والمضمون.. وأنشأ حوارًا ومواجهة بين زمنين.. وخلق توافقًا فكريًا بين الماضى والحاضر.. وجدلًا حيويًا متشابكًا بين ما فات وبين واقعنا الآنى بنوع من الاستشفاف والتنبؤ فى غايات الجماعة وأهدافها.

سيظل «وحيد حامد»- رغم الوهن والرحلة المنهكة- يشى نبعه بوهج لا ينطفئ.. ولا تزال زهرات البساتين تشتاق إلى زهرات جديدة من ثمار مدهشة من التألق والإبداع.. وسيظل شاهدًا على العصر.. وجوهرة تبرق فى لياليه الضنينة.. منتصبًا كزهرة لوتس لا تنحنى للأنواء.. فرسًا نافرًا فى الغمام.. متمردًا حرًا.. فياضًا.. بعطاياه المبهرة.
نقلا عن المصرى اليوم