مؤمن سلام
ظل الغرب على مر عقود ربما منذ خمسينات القرن العشرين يعتقد أنه يستطيع استخدام الإسلام في صراعه ضد الشيوعية عن طريق جماعات الإسلام السياسي الرسمية وغير الرسمية دون أن يُصيبه شيء من لهيب هذه الجماعات. حيث بُنيت الرؤية الغربية على أن نشر الفكر الإسلامي عن طريق دعم جماعات الإسلام السياسي مثل الإخوان المسلمين، والنظم الدينية في الدول ذات الأغلبية المسلمة سيكون بمثابة حاجز صد ضد انتشار الأفكار الشيوعية في هذه المجتمعات، فكانت ماسُميّ بالصحوة عام 1979 والغزو السوفيتي لأفغانستان وظهور ما يُسمى بالجهاد الأفغاني والثورة الإسلامية في ايران، والغريب أن هذه السنة نفسها هى ما شهدت صعود النيوليبرالية في الولايات المتحدة مع وصول رونالد ريجان للبيت الأبيض الذي تبنى "المجاهدين" وأطلق عليهم اسم مقاتلي الحرية واستقبل وفدهم في المكتب البيضاوي، وفي المملكة المتحدة مع صعود مارجريت تاتشر إلى رئاسة الوزراء، وفي الصين مع إعلان الصينية'> الحكومة الصينية بزعامة دينج جياو بينج عن الإصلاحات الإقتصادية.
ومع سقوط جدار برلين وتفكك الإتحاد السوفيتي، وجد الغرب نفسه أمام جيش من الإسلاميين مُدرب ومُسلح وخارج عن أى سيطرة على عكس ما كان يعتقد قادة الغرب أن هذا الجيش يقع تحت سيطرتها ويمكن التحكم فيه، ولعل السبب في ذلك أن هؤلاء القادة ومن وراءهم مراكز الأبحاث لم يفهموا بعد العقلية الإسلامية التي لا يمكن السيطرة عليها، فلهذه التنظيمات الإسلامية أفكارها الخاصة وعقيدتها المستقلة والتي تختلف من جماعة لأخرى قد تصل إلى تكفير بعضها البعض، بالرغم من إتفاقها جميعاً على الهدف المرحلي وهو إقامة حكم إسلامي في كل دولة، وإحياء الخلافة الإسلامية وأستاذية العالم كهدف نهائي. وهو ما جعل العقدين الأخير من القرن العشرين والأول من القرن الواحد والعشرين يشهدان موجة من العمليات الإرهابية، من نفس هؤلاء الذين تدربوا وتسلحوا على يد مخابرات الدول الكبرى.
وبدلاً من أن يتعلم العالم الغربي الدرس بأن التحالف مع هذه التنظيمات هو تحالف مدمر وأن السحر لابد وأن ينقلب على الساحر، راح قادة الدول الغربية يتبنون نظرية محاربة الإسلام السياسي العنيف بالإسلام السياسي "الديمقراطي". لقد صدق هؤلاء أن هناك من الإسلاميين من يؤمن بالفعل بالديمقراطية وآليتها وقيمها، فقد صدقوا تقية الإخوان المسلمين وعلى رأسهم أردوجان، بأنهم أفضل من يحكم الدول ذات الأغلبية المسلمة وأن فكرهم الإسلامي لا يتناقض ولا يتصادم مع قيم الحداثة وعلى رأسها الديمقراطية وتداول السلطة، إنها مرحلة رفض اردوجان تصنيف حزبه باعتباره حزب اسلامي ولكن حزب محافظ، وتصريحه في مصر أنه علماني.
إلا أن الطبيعة الذهنية والأيديولوجية للإسلاميين عامة والإخوان المسلمين خاصة، لا تجعلهم قادرين على التزام التقية والمداراة لفترة طويلة فسريعاً ما تسقط الأقنعة وينكشف المستور ويظهر عدائهم للحريات وللديمقراطية ولكل قيم الحداثة، فاستعجالهم للنصر كما يعبرون عن ذلك، سواء ما قام به الإخوان المسلمين في مصر خاصة المادة 219 التي تؤسس لدولة دينية في مصر والتي جاءت مفسرة للمادة الثانية من الدستور وتنص على "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، فى مذاهب أهل السنة والجماعة."، كما ساهم فشل الانقلاب العسكري في تركيا في سقوط قناع أردوجان الحداثي ليظهر وجهه العثمانلي المستبد المعادي للحريات الحالم بعصر الخلافة، بل لقد بدا يُدلي بتصريحات يتقمص فيها دور أمير المؤمنين وخليفة المسلمين.
وعلى ما يبدو من خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عندما أشار إلى خطأ انسحاب الدولة من أحياء المسلمين قائلاً "قمنا بتجميع السكان بموجب أصولهم، لم نعمد إلى إحلال ما يكفي من الاختلاط، ولا ما يكفي من تمكينهم من التدرج الاقتصادي والاجتماعي"، مشددا أنهم (الإسلاميين) "بنوا مشروعهم على تراجعنا وتخاذلنا". فعلى ما يبدو من هذا الخطاب أن الدول الكبرى بدأت تنتبه إلى هذه الحقيقة التي تعاموا عنها لعقود وهي أنه لا يوجد إسلامي يؤمن فعلياً بقيم وآليات الديمقراطية، سواء كان داعشي أو إخواني، وعليهم الآن أن يتحركوا وبداية التحرك هى التخلي عن هذه الرؤية الساذجة لإسلام ديمقراطي حداثي.
هذه هى أزمة العالم مع الإسلام أو لنكون أكثر دقة مع هذه النسخة من الإسلام التي يتبناها التيار العام من المسلمين.
أما عن أزمة الإسلام الحالي مع العالم، فهى أزمة مع الزمان والمكان في الحقيقة. فالفكر الإسلامي مازال يعيش في القرون الوسطى، ومفاهيم وأفكار القرون الوسطى.
ففي الوقت الذي تتجه فيه الإنسانية نحو العلمانية، مازال الفقهاء يرون في فصل الدين عن الدولة كفر وعداء للإسلام، الذي هو دين ودولة، وشريعة وعبادة.
وفي الوقت الذي تتجه فيه الإنسانية نحو الحرية المطلقة مازال الفقهاء يُحرمون الحرية باسم الحلال والحرام الذي تقرر منذ أكثر من ألف عام.
وفي الوقت الذي تتجه فيه الإنسانية نحو المساواة الكاملة بين البشر وإلغاء التمييز بين بني الإنسان على أى أساس، مازال الفقهاء يتحدثون بفكر الذمية مع غير المسلمين والقوامة على المرأة، ونصف الميراث للمرأة، وفضل تعدد الزوجات، والدفاع عن العبودية وممارسة الجنس مع الإماء.
وفي الوقت الذي تتجه فيه الإنسانية نحو الديمقراطية، مازال الفقهاء يتحدثون بمنطق أهل الحل والعقد والبيعة والرعية وطاعة ولى الأمر.
وبينما تتجه الإنسانية نحو إلغاء الحروب والاستعمار والعيش في سلام، مازال الفقهاء يحرضون على الجهاد والإستشهاد وإستعادة الخلافة.
وبينما تتولى المرأة أعلى المناصب في أكبر دول العالم، مازال فقهاء الإسلام يروا في المطبخ المكان الطبيعي للمرأة، وجواز زواج الصغيرات.
وبينما تتجاوز الإنسانية فكرة القومية نحو الوحدة الإنسانية، مازال شيوخ الإسلام يرون في الإسلام عقيدة وهوية وجنسية.
وبينما ترى الإنسانية في الحريات الشخصية حق مقدس لا يُمس مازال فقهاء الإسلام يروجون للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ويحفزون على تغيير المنكر باليد واللسان.
وهكذا على كل المستويات والأفكار، بعد مئات السنين من التنوير والحداثة مازال المسلمون يرفضون ويقاومون ويحاربون قيم الحداثة والتنوير، ويفعلون ذلك باسم الله ودفاعاً عن الإسلام، ثم يتسائلون لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ ببساطة لأننا نريد أن ننفصل عن التاريخ والجغرافيا، نريد أن نعيش في القرون الثلاثة الأولى للإسلام وليس في القرن الواحد والعشرين، ونُريد أن ننفصل عن كل الإنسانية، بل لقد وصل الجنون ببعض المسلمين أنهم لا يريدون فقط الإنفصال عن الإنسانية بل السيطرة عليها وإعادتها إلى القرون الثلاثة الأولى للإسلام.
نعم الإسلام يعيش أزمة حضارية، أزمة رفض الحداثة وقيمها، ولن تُحل هذه الأزمة إلا بعودة فقهاء المسلمين إلى مساجدهم يُعلمون المسلمين فضائل الأخلاق وقيم التسامح، وليس العنف والعنصرية، وينسحبوا من المجال العام فلا يتحدثوا في اقتصاد ولا سياسة ولا تربية ولا فنون وآداب، فضلاً عن أن يتحدثوا في العلوم والتكنولوجيا، أو ببساطة أن يحترموا تخصصهم الديني.
سيظل الإسلام في أزمة حتى يخرج المسلمون من القرون الوسطى.
لقد اعترف ماكرون بأزمة العالم مع النسخة الحالية من الإسلام وبدأ يأخذ خطوات نحو حل هذه الأزمة، لكن هل سيعترف المسلمون بوجود مشكلة في النسخة السائدة من الإسلام وأنهم بحاجة لنسخة جديدة تراعي ظروف الزمان والمكان؟ أم سيصرون أنه لا يوجد أزمة وإن كان هناك أزمة فهى في المسلمين وليس في الإسلام؟