الأب اثناسيوس حنين -اليونان
سيدى وأبى وصديقى
أذكر أنك قلت لى مرة حينما استقبلتنى فى مصر التى أحببتها وتكلمت لغتها بلهجتها الجميلة وفى ايبارشيتك الواسعة والساحلية والمترامية الأطراف وذات الرصيد التاريخى واللاهوتى والروحى والمشع حضاريا ’ قلت لى قولا لابد أنك تعلمته فى صفوف اللاهوتيين الشباب بالقرب من جبل أثوس المقدس وعلى يد رهبان أفاضل ونساك لاهوتيين فى مدرسة الأثونيادا التى تتلمذت فيها على لاهوت الخبرة والنسك والترك ووخطوت فيه أول خطوات التكريس للمسيج والكنيسة ’ ومن ثم اختبرته عمليا فى نسك وتجرد وحب الفقراء والدليل انك قررت أو قرر الروح حينما عاين اشواقك للموت نسكا وحبا ان يرسلك للخدمة فى الافريقيين السود البشرة والبيض القلوب والجياع ليس فقط الى الخبز بل الى كل كلمة حياة تخرج من قلوب ذابت حبا فى الكلمةالألهية . أكرر قلت قولا أبائيا عميقا وسديدا تعلمته فى مدرسة الأثونيادا التى درست فى صفوفها فى ريعان شبابك "أذ قررت أن تموت قبل أن تموت ’ حينما يأتيك الموت لن تموت "
«Εάν πεθάνεις πρίν πεθάνεις, όταν πεθάνεις δεν θα πεθάνεις»
والمعنى هو أن الموت ليس قدرا بل اختيارا .ان يقرر المرء أن يموت طوعا معناه أن يصير كحبة الحنطة التى تكلم عنها السيد . الموت ليس مكتوب بل مقروء .الله ليس سبب الموت ’ هذا فكر السببية الشمولية الذى ساد العهد القديم وأديان ومذاهب أخرى ’ المسيحية فى وجه مسيحيها جعلت الموت شهوة ورؤية وانتقال بل وخيار حر بالتوبة والنسك والموت الاختيارى عن أركان هذا العالم الضعيف ’ حسب بولس الذى أسس لاهوت الموت والحياة .هذا العالم الضعيف والذى يظهر ضعفه على أشده فى هذا الأيام .
جأئنى خبر انتقالك سيدنا "فى لحظة بغته" كما يقول النبى أشعياء(29 :5 ). أنتقلت الى حنان الأب لتعاين النور الالهى الذى كان دوما مرتسما على وجهك فى ابتسامتك الدائمة والتى وان عبرت فهى تعبر عن سلام داخلى ووجه غير شهوانى وفرح قلبى ينسكب على الرعية .أختطفك الرب لأنه رأى أنك كنت أمينا على وزنة الليتورجيا الأرضية الزائلة ’ فأقامك على الليتورجيا السماوية الدائمة التى يصفها يوحنا الرأئى والراعى فى كتاب الرؤيا والذى كانت كنيستك سباقة فى تفسيره .قدسك تدرك جيدا لأنك مهندس ولاهوتى ’ أنه ان يكون شخص مطرانا ليس ان يكون بالدرجة الاولى اداريا ولكن أن يكون أبا روحيا لكثيرين ومعلم ولاهوتى.وأنت لاهوتى كما كل اكليريكى عند الروم اذ درست اللاهوت فى مدرسة "أثونيادا" اللاهوتية التابعة لجبل أثوس ثم درست علوم التربية فى كريت ومن ثم تلهوت فى أثينا العامرة.أنت صرت ما تعلمت . أكلت الكلمة بمرارتها وتكاليفها ووصاياها برضا فصارت فى كيانك حلوة . أنت أدركت مع المختارين أن النعمة ’ نعم مجانية ’ ولكنها مكلفة ..
وهذا ما كنته على خير وجه . يظهر هذا جليا من كم الكلمات التى ظهرت على الفيس بوك والتى تعكس حقيقة معاشة لأن هذه شعوبكم لا تعرف فنون المجاملة الرخيصة .وتعلمت أيضأ فى اللاهوت ’ أن الاسقف هو ايقونة المسيح حسب الانطاكى اغناطيوس وحيث الاسقف هناك الكنيسة فى ملئها وليس جزء منها .ومن هنا تأتى الوحدة والشركة والخضوع للمجمع والبطريرك.ولقد جأتك أول دعوة كهنوتية لك على يد مطران فاضل ولاهوتى ناسك وخير وهو مطران بيرية الراحل كالينيكوس والذى أحبنا وأحب فينا مصر كلها وأنقذ لاهوتى قبطى من التيه فى برية العالم وقام بسيامته كاهنا فاضلا ومن ثم رقد ’ فجأة أيضا ’ وهو اليوم يقيم الليتورجيا السماوية وبلغه سلامنا .لقد جأ بك غبطة بطريرك الروم الى مصر لأنه يعلم أنك تعلم أن الروم ’ تاريخيا ’ ليسوا ضيوفا على مصر بل هم أصحاب بيت ولهم اليد الطولى فى نهضة مصر .
مصر موضوع حب وشغف لمن يعرفها جيدا . لديها قدرة عجيبة على تمصير الاعجمى والبدوى’ كم وكم الجار والصديق الحضرى. شعبها طيب ’ متدين ’وغير متعصب فى غالبيته . ويكفى نظرة على كتاب الباحث الكسندر كيترويف (دور اليونانيين فى صناعة مصر الحديثة ) بالانجليزية -اصدار الجامعة الامريكية بمصر عام 2019 .)لنعرف دور الروم اليونانيين فى صنع نهضة مصر الحديثة . الشئ اللافت أنهم أى الروم ساهموا فى نهضة كل شئ فى المحروسة من المسرح الى السينما والى الفن والى المطاعم وناهيك عن دورهم فى الاقتصاد المصرى وتجارة القطن بل وصلوا الى تأسيس فن البقالة والفندقة (البنسيون) فى قرى ونجوع مصر . ومن لا يقرأ ’ فليشاهد الافلام المصرية القديمة فى السينما المصرية والتى لا تخلو من ممثل يونانى مصرى وتعبيرات يونانية يومية . الشئ اللافت ’ نقول ’ أنهم وبالرغم من براعتهم وفرادتهم اللاهوتية ’ لم يساهموا فى نهضة مصر لاهوتيا فى وقت كانت فى حاجة ماسة الى يد صديق بعد أن سنت خناجر وعلت حناجر الاعداء من الداخل ومن الخارج .
ساهمت امور كثيرة فى هذا لا يسع مجال التعزية سردها ولكن ولأن سيادة المطران نيفون وكل أخوانه الروم يحملون هذا التراث بألامه وصلبانه وقياماته .نذكر فقط خليقدونية وتوابعها والحضور العربى وثقة القبط بأنهم ليسوا بحاجة الى لاهوت أخر سوى الذى تسلموه توجسهم من الجديد المسموم !’ والأهم أن الروم لم يعتبروا مثل غيرهم من المسيحيين الغربيين أن الشعب القبطى موضوع تبشير ! بل أحترموا تراثه وعاداته وكنيسته. كل هذه شكلت بعض عوامل عدم قيام الروم بنهضة لاهوتية مبرمجة وسط الأقباط بالرغم من حبهم الشديد لمصر وللقبط . ولكم سلوكياتهم وأدبياتهم خرجت من تحت المكيال وهى الأن تضئ على الميديا على يد اولاد نيفون وأخرين.! ولقد أسس بطاركة الروم فى الأونة الأخيرة من بارثينيوس مرورا ببتروس الى ثيؤدوروس نهجا جديدا فى التعاطى مع الكنيسة القبطية ولقبوها "الارثوذكسية "’واللفظ ليس للمجاملة بل هو لقب لم يكن يطلق عليها فى اليونان وغيرها من بلاد الارثوذكس الخلقيدونيين لعقود كثيرة , أضف الى ذلك العلاقة بين البطاركة بل وابينا نيفون أحب اقباط ايبارشيته اكليروسا وشعبا .وهى علاقة مثالية وان كنا نترجى ان تخرج من دائرة اللقأأت البرتوكولية الى عمل لاهوتى عميق ومبرمج وله نتائج على الارض فالجار أولى بالنهضة .
أنا اعتقد شخصيا أن الوحدة الارثوذكسية يجب أن يتم طبخها على نار الروح الهادئة فى ارض مصر وبين القبط والروم على يد لاهوتيين مختبرين ومتألهى العقول وطيبوا القلوب ومن ثم يتم اعداد ملفات ووثائق استعداد لانطلاق الحوار الذى توقف ! ومن ثم نخرج بها الى العالم جينما يأتى ملء زمان الوحدة!. كل مطران وكاهن وعلمانى روم يحمل هذا التراث فى داخله ومنهم مصريون أبا عن جد .وفى مقدمتهم من نؤبن اليوم الذى لم يتوقف عن السعى للتواصل مع الشعب المصرى الأغلبية بعد هجرة أغلبية اليونانيين بسبب التأميمات العشوائية .ويجاهد لتعلم التواصل مع شعب المسيح بلغته الأم أى العربية بلهجتها المصرية الموسيقية. سمعنا فى عظة له بالعربية يدعو الشعب لشكر ربنا الف مرة الاف المرات على وجودنا فى مصر ويقول "مصر بلد فيها كول هاجة ’ مصر امريكا بالنسبة للافريقيين" قالها وأستطرد "بينما أخوة لنا فى افريقيا يموتون جوعا ويقضون عطشا ويشتاقون لنقطة ميه "! وكانت خدمة ونهضة وبشارة القارة السوداء قد اثقلت قلوب الروم البيضاء ! أذهلنى تواضعه أذا رقد وحيدا بلا خدم ولا حشم ولا أبهة بيزنطية مع أن القانون الكنسى أو العرف يفترض شماسا مرافقا للمطران ولكنه لم يختار أن يكون اسقفا عظيم الشأن ..الروم فقراء لأنهم يعرفون أن مجد وغنى بيزنطية قد ولى الى غير رجعة . من يعاملهم على أساس التاريخ البيزنطى بما له وما عليه يظلمهم ويخسرهم . أختار المطران نيفون الفقر فأختطفه الغنى .حتى ملابس الكهنوت المزركشة والمذهبة لا يملكها أحدهم .التقيته لأول مرة فى معية صاحب الغبطة البابا ثيؤدوروس بطريرك الروم الارثوذكس فى مصر وسائر افريقيا ’ الذى لم يكن يخفى ثقته المطلقة بنيفون ولأنه مهندس ولاهوتى فقد عهد اليه بتعمير وتجديد كنيسة مارجرجس ودير الروم ونجح المطران فى تجديدها وصارت كاتدرائية ضخمة (مترو مارجرجس -مصر القديمة). كانت العناية الالهية قد رتبت أن التحق بالبطريركية الرومية فى مصر للمساعدة فى الخدمة وأقامة جسور ومودات بعد أن تعددت الحوائط والجفأأت.ولعلها لأول مرة يتم لقاء لاهوتى وروحى وانسانى هادئ بين اسقف رومى وكاهن قبطى يونانى(وأنا قبطى الأصل وهم يعلمون ذلك )كان ذلك فى عام 2015 والتقيت غبطة البابا فى دير مارجرجس بمصر القديمة وقال لى يومها " أبونا اثناسيوس أنت لاهوتى وتعرف لغات كثيرة وانت مصرى يونانى ’ وأريدك أن تلبس بدرشيلك وتستقبل الأتيين الى مصر القديمة من كل الامم ومن كل القبائل وتقبل اعترافاتهم وتعطيهم الحل ’ وسوف يكون لك غرفة فى المقر الباباوى فى مصر القديمة" كان قوتها الاسقف نيفون رئيسا روحيا للدير وقائما على شئون الكاتدرائية. دعوة سماوية ملأتنى فرحا سماويا أن أخدم أخوتى روما وأقباطا وعربا . خدمت فى الاسكندرية و القاهرة الجيدة والضاهر ودمياط وحينما دعانى أبائى بندليمون دمياط و ثيؤدوروس المنصورة لبيت الدعوة وحينها جأئنى تليفون من سيدنا نيفون بمبادرة حب وتواضع أخجلتنى لأننى لم أطلب بركته للذهاب الى ايبارشيته حسب الاصول الكنسية ! اتصل بى يبارك ويدعونى أن أقوم بالخدمة معه فى كنيسة القديس اثناسيوس الرسولى الأثرية فى المنصورة وكان ذلك فى عيد أثناسيوس تكريما لى . كنيسة تحمى حوائطها المنهارة تاريخا والتى تنتظر ترميما . لابد أن تدرك الدولة المصرية أن ترميم هذه المعابد ’على نفقة الدولة ’هو ترميم لتاريخ مصر .وحينما ذهبنا الى المركز الروحى لاحتساء القهوة ولقمة المحبة (الليتورجيا بعد الليتورجيا) أفاض لى بحزنه الشديد على ما ألت اليه كنائس الروم فى مصر .
تم تحويل المركز الروحى والثقافى فى المنصورة الى صالة احتفالات وأفراح دنيوية وأمتلأت الحوائط بأيات وشعارات دينية لاصلة لها بتاريخ هذه الماكن.بل معظمها أيات قرأنية وشعارات دنيوية ! بعد عودتى الى أثينا أتصل بى من مصر ليوصينى خيرا بشاب قبطى تعثرت أقامته فى اليونان وحينما حضر الى اثينا تلقيت اتصالا منه بأنه سيقيم القداس فى احد كنائس اثينا ودعانى للمشاركة فى الليتورجيا .وما الليتورجيا ’وحسب مطران رومى أخر ’سوى "الكلمة الالهية مبسوطة بكلمات تكشف الكلمة "التى سلمت مرة للقديسين". لقد تغرب سيادة المطران نيفون عن اليونان وطنه ليستوطن مصر فصارت مصر له وطنا وهو الأن يستوطن السماء حيث يتلقى ملاطفات الهية لا يسوغ النطق بها .سيدى ادخل الى راحة وفرح سيدك ’ صلى للكنيسة الجامعة وسلم لنا على أباء وأمهات الكنيسة الكبار.