"" بقلم المهندس باسل قس نصر الله، مستشار مفتي سورية
من خلال الكثير من الرسائل التي وصلتني لمعايدتي بمناسبة عيد ميلاد السيّد المسيح، لمستُ الحزن في كلماتها والألم في حروفها، والتمنيّات بين السطور لكي لا يتمّ تهميش المسيحيين العرب، واختصار المسيحيين، إنْ في العروبة أو حتى في الحضارة الإسلامية.
هدَّد أبناء قبيلة "تَغلب" المسيحية، بالهروب إلى بلاد الروم لمّا أراد عمر بن الخطاب أن يأخذ منهم الجزية التي تُفرض على اليهود و"النصارى".
وللحِفاظ على هذه القبيلة، نظراً لِغناها وقوّتها العسكرية، أسرَع عمر إلى إرضائها فأسقطَ الجزية عنها وفرض عليها الصَدَقة التي تؤخذ من المسلمين مضاعفة، نظراً للعنفوان الذي اشتهرت به قبيلة "تغلب"، وتفادياً لتسمية "جزية".
أجل... وكما قال شاعر حلب قسطاكي الحمصي إننا "عربٌ قبل أية صيغةٍ سياسيةٍ أخرى" فنحن منحدرون من قبائلَ عربيةٍ، وُجدت في بلاد الشام قبل الإسلام.
وظهرت مقولةٌ سابقة تقول: "إنّ القومية العربية بدعةٌ مسيحية لمحاربة الإسلام"، متناسين أن العرب المسيحيين كانوا دائماً وما يزالون وسيظلون جزءاً لايتجزأ من الأمة العربية وحقيقتها التاريخية والحضارية وكيانها القومي، شركاء في صنع واقعها، وحياتها، ومصيرها، وفي الدفاعِ عن وجودها ومصالحها وقِيَمها وثَقافتِها وصورتها، وذلك في ظِلِّ الرابطة القومية الحضارية التي تقوم على مبدأ أنّ "الدين لله والوطن للجميع" وأنّ الشراكة بين عنصري الأمة، مهما قلّ عدد أحد العناصر في إطار قِيَم المواطنة المؤسَّسَة على الحقوقِ والواجباتِ الدستورية، سَتبقى دائما ذُخراً للأمّة في مجابهة التحديات.
نحن عربٌ ننتمي إلى بلاد الشام، وانتماء المسيحي إلى سوريا، لا يُلغي الإنتماء إلى العروبة، ولكنّ هذه العروبة يجب أن تحترم خصوصيته السورية.
ويجب الإقرار بأن المسيحيين العرب المعاصرين قد منحوا الكثير لأجل توطيد فكرة القومية العربية، وذلك من أجل تأجيل وعيٍ دينيٍّ مشوَهٍ أصبحنا نلمسه اليوم وهو مُهَيمنٌ يحاول نَسب القومية العربية إلى الإسلام فقط دون ذكر كافة الأطراف مهما كان دورها صغيراً.
لقد قدّم جزءٌ من المسيحيين إسهامهم في الثورة العربية الكبرى، التي قادها الشريف حسين سنة 1916. لكنّ الاشتراك الفعلي لفئاتٍ واسعةٍ مِن المسلمين في الحركة القومية العربية، أدى إلى "أسلمة" هذه الحركة، وهو الأمر الذي دفع بجزءٍ مهمٍّ من المسيحيين إلى الإبتعاد -"مؤقتاً" عنها.
وبما أن اللّغة، لا الدين، هي التي صارت أداةً مهمةً لبناء الشعور بالهوية، والمصير الواحد، نَزَع أبناء الأقليّات الدينية والعرقية، كالمسيحيين في لبنان وفلسطين وسورية، إلى إبداءِ حماسةٍ أكبر في الدعوة للقومية العربية، ولاسيما القومية العربية العلمانية. وكلمة "العلمانية" التي أقصدها، هي فصل الدين عن الدولة من دون ربط المجتمع بالأديان.
كلمة بطريرك القدس الأسبق "ميشيل صبّاح": إن القاعدة الأساسية لِتفكيك التصوير المشوّه للعربي المُسلم ونَعته بالإرهابي، لِمَحضِ مُطالبته بِحريته وأرضه، تكمن في إظهار أن العالم العربي بِمسلميه ومسيحييهِ يَقوم على تعدديّةٍ دينيةٍ وفكريةٍ وسياسيةٍ جادة في مجتمعات حيّة، ومن الضروري فَهمها في واقِعها الفعلي وتَفهُّم قضاياها القومية واحتياجاتها وخصوصيتها.
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي وزيران من أهل السماء، جبرائيل وميكائيل" وهما الملاكان اللّذان يجلُّهما كل المسيحيين العرب.
نحن أبناء تلك القبائل ومنها "تَغلِب" التي رفضت دفع الجزية ودفعت الصَدَقة، نرفض أن نُختصر.
لا تجعلوا مَن بقيَ مِن المسيحيين العرب، يَكفر بالعرب والعروبة والعربان.
وكلّ عامٍ بميلاد المسيح الشامي وكلُّنا بخير.
اللهم اشهد اني بلغت