بقلم: دكتور مهندس/ ماهر عزيز
استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ
نزل خبر الحكم ببراءة المتهمين الثلاثة فى قضية تعرية السيدة سعاد ثابت (74 عاماً) الملقبة إعلامياً بـ "سيدة الكرم" بمركز أبو قرقاص بمحافظة المنيا فى صعيد مصر نزول الصاعقة على الملايين الذين ينتظرون الإنصاف من الظلم، والحق من الباطل، والكرمة من الذلة والهوان الذى حاق بها فى الاعتداءات العنصرية التى شهدتها "قرية الكرم" خلال مايو 2016، فى أعقاب تخطيط همجى مدبر بإشاعة باطلة مؤداها أن ولدها على علاقة عاطفية بزوجة شريكه، اتُّخِذَت ذريعة لنهب وحرق خمسة منازل مملوكة لأقباط، وإصابة العديدين، والاعتداء على السيدة سعاد ثابت، وتجريدها من ملابسها أمام منزلها، ومحاولة سحلها عارية فى الشوارع، وإثارة فوضى عارمة جابت طرقات القرية بهتافات عدوانية مُزَمْجِرَة، وتخويفات شتَّى تجاه السكان الأقباط بالمجمل..
نزل خبر الحكم ببراءة المجرمين – بعد أربع سنوات ونصف من التقاضى – على الملايين نزول الصاعقة فى كل مكان، لأنه قد بلغ فى الواقع غاية الظلم، وغاية الاحتقار المفرط للعدالة..
فإذا سألنا: لماذا؟
تأتينا الإجابة صارخة من مناحٍ عدة:
أولاً: براءة المجرمين فى الجرم الثابت صوتاً وصورة تعرى ضمير المجتمع وتكشف كل عوراته..
فلقد تعرت الأحكام القضائية الفاسدة فى تعرية سيدة الكرم، ولولا ثورة الضمير الحى لبعض الذين بقيت لديهم نخوة الحق والإنصاف والعدل لمات الشرف موتاً نهائياً على الأرض المصرية.
ولولا بقية ضئيلة من حرص على سمعة البلاد ووضعها العالمى، ما أصدر النائب العام أمراً بدراسة أوجه الطعن على الحكم الصادر ببراءة المتهمين، استجابة لتوجيه رئاسى، يحاول أن يلاحق الملامة بجهد جهيد.
ثانياً: الحقيقة الصارخة التى تجاهلها القضاء الحاكم هى أن قضية سيدة الكرم ليست خصومة بين شخصين يستمع فيها القاضى لشهود الزور؛ ولكنها جريمة مجتمع شواهدها مثبتة صوتاً وصورة، والحكم فيها حتماً يختلف!!
الشواهد المسجلة لحظة الحدث، والشهادات الحية المحفوظة – مهما غير أصحابها شهادتهم تحت التهديد والوعيد أو الإغراءات المختلفة – قائمة ناطقة بذاتها ومثبتة لا مراء.. مثبتة على أقل تقدير فى البيوت التى احترقت، والممتلكات التى نُهِبَتْ والفضيحة التى جلجلت فى أقاصى الأرض ساعتها بتعرية السيدة التى ناهزت السبعين من العمر..
فكيف يحتكم القاضى لشهود نفى أو إثبات فى جريمة مجتمع بأكمله شهودها الحجر والتاريخ والإعلام والأيام والكرامة المهدرة لشعب بأكمله، حتى لقد قدم السيد رئيس الجمهورية بنفسه عزاءه العلنى للسيدة المُعْتَدَى عليها، وطَيَّب خاطرها فى خطاب مشهود للدنيا كلها، مستنكراً الانتهاك المجتمعى لها، فى أقوى إدانة للمجتمع المجرم الذى عَرَّاها بِخِسَّة ووحشية وقلب ميت!!
وأمام الضمير والتاريخ والعالم كان حَرِيَّاً بالدولة ونظامها القضائى إصدار الإدانة الفورية للمجتمع المجرم والمجرمين، كأول معول لإصلاح حقيقى من التخريب الذى حاق بقيم الناس تحت طغيان الداعشية المرعبة..
استخدام شهود يتم تزوير شهادتهم تحت صنوف الترهيب والترغيب الممكنة هو عوار قضائى فادح، لأن ذلك وإن كان ممكناً فى الخصومات الشخصية لا يستقيم البتَّة فى جُرْمٍ جماعىٍّ اقترفه مجتمع قاسٍ اغلَظَّ قَلْبُهُ بالعنصرية والذمية واستحلال الجرائم الأخلاقية، بفعل ثقافة وتعليم لا إنسانى وحشى يحاط بهالة من التقديس على أنه من كنوز التراث ، وبفعل تخطيط شرير لمجموعات إجرامية تتفنن فى هدم الدولة بوسائل وأساليب سلب كرامة وممتلكات جيرانهم المسالمين، لا لشئ إلا لأنهم يتبعون ديناً مختلفاً!! وبفعل قوات أمن لا تقدم الحماية أبداً تشجعهم على ذلك، وبفعل قضاء يبرئهم على طول الخط باعتبارهم الأسياد والأعلون الذين لا تصح مساءلتهم مهما اقترفوا من جُرْم..
دور الدولة ونظامها القضائى إصدار الإدانة المطلقة لجريمة المجتمع والمجرمين.. وإلا فإن الحكم يبرئ مجتمع الجهل والظلم والعنصرية.. ويمنحه قوة الاستمرار والبقاء..
ثالثاً: مسئولية الدولة مسئولية خطيرة جداً، لأن الدولة بدءاً بدستورها الذى يخضع خضوعاً كاملاً لنصوص صريحة تثبت "انحيازية" الدولة، ثم بسيطرة الشأن الدينى على كل مناحى الحياة فى المجتمع، تصنع تكريساً مطلقاً لدولة غير مدنية صِرْف.. حيث يسود الفرز العنصرى الذى يجعل من الحدث كله استحلالاً طبيعياً.. بل حقاً واجباً.. بل واجباً مقدساً تحتمه نصوص تلقنوها فى معاهد تعليمية، وسمعوها من مرشديهم، تطالبهم بالبطش بالأغيار خاصة النساء منهم..
بينما فى الدولة المدنية يطبق قانون الإنسانية الخالدة.. بالمساواة بين الجميع والمواطنة الكاملة.. وهو ما ينعدم وجوده فعلاً لأن مواد "مدنية الدولة" فى الدستور تنسفها نسفاً مطلقاً المواد التى تؤكد خضوع الدولة خضوعاً مطلقاً لغير القانون العام وغير الدعائم المدنية..
رابعاً: فى هذه الوضعية الجائرة يبدو من المستحيل تماماً تحقيق التوجيه الرئاسى بالتحول لدولة مدنية، وهو التوجيه الذى أصدره السيد رئيس الجمهورية إلى دولة رئيس مجلس الوزراء بقيادة البلاد لتحول حقيقى نحو "مدنية الدولة".. ذلك أن الأحكام العنصرية فى المنظومة الحقوقية تؤكد لترسيخ دولة غير مدنية حتى العصب والنخاع..
خامساً: إن الحكم بتبرئة المتهمين فى قضية سيدة الكرم لم يكن سوى حكماً بتبرئة العنصرية والجهل، واعتمادها هما جوهراً حَيَّاً لمجتمع على الحافة النهائية للتخلف.
فحرق المنازل، وترويع المواطنين، ومخرجات الصلح العرفى الظالمة لصالح المعتدين، هو انتصار للتمييز والفرز العنصرى، وتسييد للإجرام والجهل.
سادساً: إن ما طَيَّب به السيد الرئيس خاطر السيدة المعتدى عليها عام 2016 كان إعلاناً من رأس الدولة عن شجبه وإدانته للجرم الواقع عليها، فإذا قاموا بتبرئة المجرمين الآن فقد حكموا بعطب شديد فى النظام الحقوقى للدولة.
سابعاً: إن الحكم بتبرئة الإجرام لا يظلم فقط سيدة الكرم.. بل يزلزل الانضباط المجتمعى، ويقدم السَنَد والدَّعم لإفساد الدولة والناس، ويُسَوِّغ تكرار الاعتداءات الطائفية، ويُزِّيَّن التساهل فى العنف ضد المرأة.
ثامناً: إن القاضى الذى يتعلل بأنه إنما يحكم بما لديه من قوانين وأدلة، يتجاهل أنه هو الذى يفسر القانون، وهو الذى يبرر أحكامه، وهو الذى يتدبر الأدلة.. وبوسعه دائماً أن يستدعى سلطات تقصى الحقائق، وأدلة وقرائن الثبوت.. لكنه إذ يتعلل بشهادات الزور والإنكار التى تُلَقَّن تحت التهديد والوعيد والوعود، يخالف الضمير القضائى، فيحكم ضد روح القانون، وضد إرادة الحق والعدل والإنصاف.
تاسعاً: إن منظومة المقاضاة المؤلفة من تحريات الشرطة، وتحقيقات تنفذها النيابة، وأحكام يصدرها القضاء تكاتفت كلها على الجور والظلم إنطلاقاً من أفكار تلقنوها وتربوا عليها تبرئ المعتدى مهما ظلم، ولا تأخذه بجرمه طالما كان هذا الجرم موجهاً إلى "الكفار" الذين تعلموا فى معاهدهم ومنصاتهم بأن إذلالهم.. واحتقارهم.. وتعريتهم.. وسلبهم.. والإزدراء بهم.. واستعبادهم.. والتضييق عليهم.. يجعلهم مؤمنين عظماء عند اللـه؛ وهكذا تكرس هذه المنظومة لانهيار الحق الإنسانى فى الحياة الآمنة الكريمة، وترسخ لطبقية متجذرة تحجز المجتمع كله فى سجون الجهل والعنصرية والتخلف.
عاشراً: الالتفاف حول القانون فى كل أحداث العدوان العنصرى والحرق والسلب والنهب والتدمير، سواء بالجلسات العرفية، أو تزوير الأدلة، أو ترهيب الشهود وَتَوَعُّدِهِم بالقتل، أو بخطف زوجاتهم وأولادهم.. أو تهجيرهم بعيداً عن مَعَايِشِهِم دون تطبيق القانون، يؤكد أن لا أمل مطلقاً فى دولة القانون والمواطنة والمساواة بين الجميع، وأن كل مجرم يستطيع ببساطة شديدة أن يهرب بجريمته مهما كانت بشاعتها، وأن النزاهة والشفافية فى التحكيم القضائى المصرى من رابع المستحيلات.. لأنه يبتر المجتمع كما بسيف مسنون، فيطبق أحكاماً تبرئ الظالم على أساس استعلاء طبقى فى مواجهة الأغيار.
وأخيراً وليس آخراً.. يبدو هذا التحذير الأخير مهيمناً ومسيطراً على الموقف كله:
يموت العدل..
فيموت الشرف..
ويموت الأمل فى العدل..
فيموت الإنسان.
وكل يوم يمر على أحكام الظلم الصادرة ببراءة المجرمين فى كل وقت وكل أوان يقربنا من مجهول لا تُعْرَف عواقبه..
فهل سَيُقَدَّر للطعن الذى تقدم به النائب العام أن يغطى الضمير الذى تَعَرَّى؟