عاطف بشاي
«المجتمع السلفى» الذى يعبر عن وصف المؤرخ «عبدالرحمن الجبرتى» للفواحش و«الأسافل» و«الغوانى» و«العواهر» و«الخواطى» و«القحاب».. وكلها مرادفات أوردها الباحث والأديب المرموق «مصطفى عبيد» فى دراسة شيقة بكتابه «هوامش التاريخ.. من دفاتر مصر المنسية» عن تاريخ الدعارة فى «مصر» منذ الحقبة الفاطمية وزمن الحملة الفرنسية.. وقد تمكن الباحث من جمع أوراق من أرشيف وزارة الداخلية تتضمن تراخيص لإنشاء بيوت دعارة تحت مسمى «بيت عاهرات»، ويكتب فيها اسم صاحب البيت ومهنته وعنوان البيت المطلوب فتحه.. ويتم توقيع الترخيص من القسم التابع له البيت.. ثم يتم ختمه بختم وزارة الداخلية.. وفى روايات كاتبنا الكبير «نجيب محفوظ» يقدم الكثير من نماذج «العاهرات»، ويرصد من خلالهم أحوال المجتمع المصرى منذ العشرينات من القرن الماضى.. خاصة فى «الثلاثية» و«السمان والخريف» و«الشحاذ» و«حضرة المحترم»، وهى الرواية التى أسعدنى الحظ بكتابة السيناريو والحوار لها فى مسلسل عرض فى التسعينيات، وقام ببطولته «أشرف عبدالباقى».. وهى رواية فلسفية تتصل برحلة بحث البطل عن «اليقين» ومعنى الوجود والعدم ولغز الموت وعبثية الحياة.. بطلها «عثمان بيومى» موظف بسيط وفقير يطمح أن يصير مديراً عاماً للمصلحة الحكومية التى يعمل بها.. تلك الدرجة التى تمثل بالنسبة له مقاماً مقدساً فى الطريق الإلهى اللانهائى.. وهو بطبيعة تكوينه النفسى يتصف بالانعزالية وانعدام التكيف الاجتماعى.. يعيش وحيداً بلا أهل أو أصدقاء.. ولا يمارس من متع الحياة سوى التردد مرة كل أسبوع على درب البغاء ويخالط فى أحد بيوته «قدرية»، التى يصفها «نجيب محفوظ» بأنها تتسم بالترهل والبدانة.. كهلة «فى ضخامة بقرة مكتنزة تحمل فوق كاهلها نصف قرن من الابتذال والفحش».. ثم تتطور العلاقة فلا يصبح «عثمان بيومى» بالنسبة لـ«قدرية» مجرد زبون عابر ولا تصبح هى بالنسبة له مجرد عاهرة يطفئ فيها شهوته.. إن العلاقة ترتقى إلى ما يشبه الصداقة.. سنوات طوال تجمع بين «قدرية» و«عثمان» وتستمر العلاقة فى إطار إنسانى لا يمكن الاستغناء عنه وقد مر معها بجميع الأطوار من الرغبة إلى الملل إلى العادة التى لا يمكن الاستغناء عنها.. وباتت هى والحجرة العارية والنبيذ الجهنمى عناصر متكاملة وحميمة وأليفة.. تهبه الراحة والتأمل والأسى.. وتدفعه إلى مواجهة الحياة القاسية غير مبال بسلوك صاحبته الحيادى وتصرفاتها المهنية..
وفى ليلة حمله الليل كالعادة الروتينية إليها فى حجرتها العارية تفاجئه بالقرار العسكرى بإلغاء البغاء (وزارة إبراهيم عبدالهادى باشا 1949) وترفض أن تعطيه عنوان بيتها مؤكدة أنهن سيخضعن لرقابة متشددة.. وحينما يسألها عما ستفعل تردد بثقة أنها ستتزوج.. يشعر بوحدته وضياعه ويأسه.. ويقرر الزواج بها وهو يترنح من تأثير السكر.. فلما أفاق فى الصباح فى فراشها بمنزلها أيقن هول ما أقدم عليه.. ما يلبث الابتعاد بها فى حى جديد ويستأجر شقة بروض الفرج ويلزمها بالحجاب باسم الحشمة فى الظاهر.. وفى الحقيقة خوفاً من أن يقع عليها زبون قديم أو حديث.. وينصحها بتجنب الاختلاط بالجيران.. وكان يخشى أن يقع خلاف بينها وبين إحدى الجارات فتنسى تحفظها وتنفجر براكين الفحش الكامنة فى أعماقها..
هكذا رأى نجيب محفوظ – وهو ما حاولت إبرازه وتجسيده – أن وظيفة النقاب عندما كتب الرواية معبراً عن حال الناس فى الأربعينيات – تتركز فى الإخفاء والتمويه والخداع الذى يستر العورات ولا يشى بماض مشين لعاهرة تائبة – وهو إذا كان حالة استثنائية خاصة فالنساء فى ذلك الزمان كن سافرات ولا يخجلن من سفورهن.. وثقافة الحلال والحرام لا تسيطر على الأدمغة.. والحياة جميلة والأضواء ساطعة والمباهج عميمة والفرح بالوجود يعلن عن نفسه فى جلاء وحبور..
أما فيما يتصل بقرار إلغاء البغاء فجدير بالذكر الإشارة- كما ورد فى دراسة الأستاذ «مصطفى عبيد»- أن انتشار الدعارة فى «مصر» فى تلك الفترة صاحبه مقاومة بالغة من مصلحين وسياسيين مثل «عبدالله النديم» و«محمد فريد»، وأسفر عن قرار «لمصطفى باشا النحاس» رئيس الوزراء (1951) بإصدار قانون مكافحة الدعارة بكل أشكالها.. لكن اللافت للنظر أن حظر البغاء لم ينه وجوده فى «مصر»، حيث تكرر ضبط شبكات دعارة كبرى شغلت الرأى العام، كان من بينها قضية شهيرة سنة (1972) شاركت فيها فنانات شهيرات.
Atef.beshay@windowslive.com
نقلا عن المصرى اليوم