الأنبا إرميا
«السلام هو هبة الله للإنسان»؛ فقد تحدثنا عن عَلاقة الإنسان بالله: بالتوبة عن الشر، وبعمل الخير، وبما ينتج من ذلك من سلام يغمر حياة الشخص. كذلك ذكرنا أهمية السلام بين الإنسان ونفسه، وسعيه لتغيير طاقات القلق والتوتر والأفكار السلبية التى تعتريه، إلى طاقات إيجابية تساعده فى اقتناء السلام الداخلىّ، فينطلق به فى المشاركة بإيجابية فى الحياة. وسلام الإنسان مع الله وسلامه مع نفسه مترابطان أشد الارتباط، ومنهما ينعكس السلام مع الآخرين.

سلام مع الآخرين
إن تحقيق السلام مع الآخرين هو ما ينشده العالم اليوم ويجدّ فى أثره؛ إذ ازداد أنين البشر مع فقدانه. لكن يجب إدراك أن لسلام الإنسان مع الآخر دعائم مهمة لتوطيده واستقراره، من أهمها وعيه وإيمانه بمبادئ الإنسانية والعدل والتشارك والتعددية وغيرها.

كُن إنسانًا
أترغب فى تحقيق السلام فى حياتك؟ كُن إنسانًا بكل ما تحمل الإنسانية من سمات. فبينما نسيّر رحلة الحياة، علينا أن ندرك أننا جميعًا بشر تحمل أعماقنا سمات الإنسانية المشتركة، التى يجب أن تراعى وتحترم اختلافاتنا كلٍّ عن الآخر، سواء كانت فكرية أو دينية أو سياسيية، واضعين نصب أعيننا أننا جميعنا نتشارك مشاعر الفرح والألم، جميعنا تعبر به أوقات من القوة وأخرى من الضعف؛ فمن منا لم يعرف النجاح والفشل، الهدوء والقلق؟! جميعنا يحتاج إلى من يشدُد العزيمة بأوقات المحن، ومن يقدم النصح بأوقات الحَيرة؛ لذلك تكمن قوة حياتنا الحقيقية فى مؤازرة كل منا للآخر، لا مصارعته وتحطيمه! ولتكُن هذه القاعدة الذهبية: «فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم».

لقد وهب الله لكل إنسان طاقات وإمكانات متنوعة تميزه عن غيره. وأمام البشر طريقان: إما أن يتصارعوا ويكونوا جميعهم خاسرين، وإما أن يتكاملوا ويحققوا النجاح معًا. ولنعُد سريعًا إلى بَدء الخليقة حين صارع الأخ أخاه وقتله: ماذا نال من استبعاده عن مسرح الحياة إلا القلق والشعور بالذنب والتيه؟! إن مواهب الله وإمكاناته للبشر من مال أو قوة أو سلطان ليست للتصارع بينهم، بل لتكاملهم وانطلاقهم نحو القمم والإنجازات التى تقود إلى الخير. كتب الكاتب المسرحىّ الإنجليزى «وليَم شكسبير»: «تكسيرك لمجاديف غيرك لا يَزيد أبدًا من سرعة قاربك»؛ فحين تحطم مجاديفهم، فأنت إنما تنشغل بالآخر عن وجهتك وهدفك الساعى لهما، متباطئًا عن تقدمك فى طريقك.

إن الحياة اليوم، بكل صعوباتها وآلامها، تستلزم من البشر حكمة السعى بتكاتف، عوضًا عن الصراع ومحاولة إزاحة كلٍّ الآخر؛ وبذا يتجه الجميع بسرعة كبيرة صوب تحقيق النجاح والخير الذى يشملهم. من هذا المنطلق، نرى أنه من الأفضل جدًّا أن نستخدم طاقاتنا ومواهبنا فى العمل معًا، ولا نهدرها فى محاولة هدم الآخرين، وإلا لن نجنى سوى مزيد من الألم والإحباط والفشل! إن ما نحمله من إنسانية بعضنا تجاه بعض هو حجر أساس السلام بيننا، وتعاضدنا فى اجتياز صعوبات الحياة؛ تلك الإنسانية قدمت للعالم أشخاصًا صاروا صانعى سلام بين البشر فأنارت حياتهم، وأضحت طريقًا سارت فيه البشرية على إثر خطواتهم؛ من أمثالهم من مُنحوا جائزة «نوبل للسلام»: كالقائد «نِلسون مانديلا» مثال صنع السلام والدعوة إلى المحبة وعدم التمييز العنصرىّ، والقائد الهندىّ «ألمهاتما غاندى» نموذج مقاومة التمييز العنصرىّ ببلاده بالسلام، والزعيم الأمريكىّ «مَرتن لوثر كِنج» الساعى لأجل حقوق المدنيِّين الأمريكيين السود بالسلام بعيدًا عن العنف.

إن أدرك البشر حاجتهم بعضهم إلى بعض فى مسيرة النجاة، فحينئذ يخطَون أولى خطواتهم فى طريق السلام. و... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!

* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم