سحر الجعارة
العلاقة ما بين الكاتب والشخصيات العامة لا علاقة لها بالأهواء، بل هى مرتبطة جذرياً بالانحياز الفكرى للكاتب، وبالتالى قد نتفق أو نختلف لكننا «كما يُفترض» نسعى جميعاً إلى ما فيه مصلحة الإنسان والوطن.. وقد تبدو هذه العلاقة مضطربة ليس لأن «الكيبورد» به عطل بل لأن «الشخصية العامة» بشر مثلنا يخطئ ويصيب، فأداء مَن أمامك هو الذى يحدد: هل تنتقده أم تثمن موقفه.

أكثر من عقدين وأنا أختلف أحياناً وأتفق فى أحيان أخرى مع الشيخ «خالد الجندى»، لكن تظل بيننا مساحة من الود تكفلها «خفة ظله» التى يتجاوز بها مساحة الاختلاف.. أحزن حين أجد «الجندى» يتمترس فى خندق التعصب فيدافع عن النقاب أو يحاول النيل من رقبة أحد رموز التنوير.. وأسعد حين يتذكر أن «الوسطية هى الحل» وأنه أحد الدعاة الذين تفرد لهم الدولة مساحات واسعة أملاً فى الإصلاح الدينى.. وأعتز به حين يتمرد على نفسه ويعبّر عن رأيه دون توازنات أو مواءمات.

رأيت الشيخ «خالد الجندى» يطل علينا «متمرداً» فى حلقة مخصصة عن الطلاق ببرنامج «لعلهم يفقهون»، المذاع على فضائية DMC، ليوجه رسالة إلى الرئيس «عبدالفتاح السيسى» والبرلمان، وعقلاء مصر، بخصوص الطلاق الشفوى، من أجل محاولة وقف الطلاق الشفوى، والاقتداء بما تفعله أغلب الدول الإسلامية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التى ألغت الطلاق الشفوى، وأصبحت تعتد فقط بالطلاق الكتابى، لافتاً إلى أن المرأة لا تحاول أن تُنهى الخلافات الزوجية مع شريك حياتها بالطلاق، خوفاً من تبعات كثيرة، لذا فهى تحاول دائماً الحفاظ على الأسرة، عكس بعض الرجال، وبعض السيدات الذين يفضلون الطلاق على استمرار الزيجة.

ويعلم «الجندى» -أكثر منى- أن هذا الرأى، (وهو فتوى)، يتعارض مع بيان «هيئة كبار العلماء» بالأزهر الشريف بشأن قضية الطلاق الشفوى، بعدما طالب الرئيس «السيسى» الأزهر ببحث مسألة توثيق الطلاق حفاظاً على الأسرة والمجتمع.. البيان الذى صدمنا جميعاً فى فبراير 2017، كان مكملاً لمسيرة الأزهر فى تكريس «الدولة الدينية»، وتنصيب رجاله أنصاف آلهة، يحتكرون أحكام الحلال والحرام، ويحكمون من خلالها الاقتصاد والطب والمجتمع.

وكان البيان به تجاوز لسلطات الأزهر كمؤسسة دينية تابعة للدولة وليست منفصلة عنها، بل إن كل فرد ينتمى إلى الأزهر يقبض راتبه من ميزانية الدولة التى نشارك فيها بضرائبنا (والتى أصبحت محل انتقاد الجميع).

وكأن «هيئة كبار العلماء» قررت آنذاك الانفراد بالساحة والافتئات على السلطة بالحديث عن ضرورة التفات الدولة لتحقيق سبل العيش الكريم.. وكان لا بد أن يدرك وقتها رجال الهيئة معنى (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)، لأن حديثهم عن أن (الحد من الطلاق الشفوى يكون برعاية الشباب وحمايتهم من المخدرات بكل أنواعها، وتثقيفهم عن طريق الإعلام المختلف، والفن الهادف، والثقافة الرشيدة، والتعليم الجاد) هو تدخل سافر فى صلاحيات الدولة.. ومحاولة انتزاع سلطات الدولة بـ«سلاح الفتاوى» مرفوضة.. كتبت وقتها وكتب الكثيرون من التيار الإصلاحى- التنويرى، وصمت «المشايخ»!

وحده الدكتور «سعد الدين هلالى»، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، الذى قال: إن رأى الأزهر الشريف الصادر فى 5 فبراير 2017 والذى يقول بوقوع الطلاق الشفوى، يُعد رأياً فقهياً وليس شرعياً، ويقابله رأى آخر من أهل العلم الكبار يقول بعدم وقوعه، وتابع: (رأى الأزهر له اعتباره وهو رأى فقهى وليس شرعياً والقائلون به من أهل الذكر لكنهم ليسوا ربنا.. فيه رأى آخر من أهل الذكر يقول بأن المتزوجين رسمياً يطلقون رسمياً مثل الشيخ «جاد الحق على جاد الحق» شيخ الأزهر الأسبق).

«هيئة كبار العلماء» احتكرت الفتوى دون غيرها، فى البيان المشار إليه، وقررت تكريس «الكهنوت الدينى»، فناشدت (جميع المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها الحذر من الفتاوى الشاذة التى ينادى بها البعض، حتى لو كان بعضُهم من المنتسبين للأزهر، لأن الأخذَ بهذه الفتاوى الشاذة يُوقِع المسلمين فى الحُرمة).

الهيئة أقصت بذلك آلاف الرسائل العلمية (ماجستير ودكتوراه) التى يحملها رجال ونساء لا يعملون بالأزهر، وأهدرت عشرات السنوات التى قضاها هؤلاء فى البحث فى الدين الإسلامى، ربما لأن بينهم مَن هو أكثر مصداقية من رجال الأزهر، وربما أكثر شهرة ونجومية أيضاً.. مثل «خالد الجندى».

قال «الجندى» فى برنامجه: (أوقفوا مهزلة الطلاق الشفوى، لا يوجد طلاق شفوى الآن، بعدما استقرت الدولة، وهذا فقه الدولة، الذى سنلقى الله به يوم القيامة، حافظوا على النساء، حافظوا على الأسر، لا يوجد طلاق شفوى، اقتدوا بكل دول العالم الإسلامى، ما عدا دولتين مصر من بينهما، كل دول العالم الإسلامى، ألغت ما يسمى بأكذوبة الطلاق الشفوى).. وأضاف: لن نكف عن الدفاع عن شرف المرأة المصرية، وحرية المرأة المصرية وكرامتها ودينها وأطفالها مهما تكبدنا من مشقة.. وكأننى أرى «جندى» الذى عرفته قبل عشرين عاماً، إنه ينتزع «مصداقيته» من فم الأسد، ويضيف إلى منبره الإعلامى جماهيرية.. وهو فى النهاية خريج الأزهر، لكن يمكن وصفه بأنه «داعية مستقل» ولن أعيد ذكر معاركه السابقة مع الأزهر أو مع تيار التنوير.

ورغم إصرار الهيئة على شرعية «الطلاق شفوياً» فإن الهيئة أكدت أن (من حق ولى الأمر «أى رئيس الدولة» شرعاً أن يتخذ ما يلزم من إجراءات لسَنّ تشريع يكفل توقيع «عقوبة تعزيرية رادعة» على مَن امتنع عن التوثيق «للطلاق الشفوى» أو ماطل فيه لأن فى ذلك إضراراً بالمرأة وبحقوقها الشرعية).

لكننا نقول للدولة وللمجلس التشريعى: إن ما أُخذ بسيف الفتوى لا يُسترد إلا بقوة القانون.
نقلا عن الوطن