عادل نعمان
.. ويتساءلون: لماذا هذا «الهرى» حول أسباب النزول، وهذا «النكت» حول «الناسخ والمنسوخ» على الرغم من رفض الكثيرين للأخير؟، فليس لله حاجة فى استبدال آيات الموادعة والصفح والسلام بآيات السيف والقتال، ويؤكدون عليها منهجًا للدعوة إلى الله، فمنه السلام وإليه السلام، ولنا فى هذا حديث آخر، وللإجابة عن هذا «النكت والهرى»، نقول لهم فصبر جميل، سنصل معكم إلى رأيهم «زمانية ومكانية الأحكام»، ولنا فيها وقفة إذا قدر لنا الوصول.
وكما كان «الناسخ والمنسوخ» إحدى حجج أنصار قضية «خلق القرآن»، وتأكيدهم أن نسخ آية مكان أخرى وتغيير نص قديم بنص جديد أو حكم قديم بجديد دليل على ارتباط النص بالواقع، فتغيير المكان من «مكة» حال الاستضعاف إلى «المدينة» حال «الاستقواء» واستبدال آيات الموادعة بآيات السيف، وتغيير القبلة من اتجاه «البيت الأقصى» إلى القبلة فى اتجاه «البيت الحرام».. لهو أمر يستوجب أن يكون النص القرآنى مخلوقا محدثا وليس أبديا أزليا. ونسحب هذا الأمر إلى أسباب النزول أيضا، ويؤكد القرآن أن معظم آياته كانت لأسباب خاصة بعينها، وهو متغير آخر لعدم نزول القرآن جملة واحدة على النبى، ودليل مادى على خلق القرآن، ومعرفة سبب النزول ضرورى لفهم النص وتفسيره واستيعاب الملابسات والظروف والأحداث، وكذلك الحكمة والقصد والعلة من التنزيل، والأهم جدا «الحكمة من التشريع»، وخصوصا الآيات الخاصة بالأحكام، وكيفية نقل الحكم من الخاص إلى العام، ومن محل إلى محل آخر، والدلائل والقرائن التى يحملها النص ليجيزه ويمرره من الخاص إلى العام، أو من محل هنا إلى محل هناك، خصوصا إذا كانت البلاد المفتوحة ليست بحاجة إلى هذا. ولنأخذ الأمثلة الآتية: لنعرف أن سبب النزول ضرورى لفهم المعنى والقصد دون تحريف.
المثال الأول: الآية «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»، فقد نزلت فى تبديل اليهود حكم الرجم إلى حكم الجلد لبشاعته وعدم قدرتهم على تنفيذه، وكانوا فى طريقهم لجلد امرأة يهودية مخالفين ما جاءت به التوراة، وما جاءت هذه الآية لغير اليهود مسلمًا كان أو غير مسلم حتى تحشر حشرًا على معنى الكفر بغير ما نزلت «وهو الإنكار» وسحبها على المسلمين ولم تكن موجهة لهم، بل تخص اليهود، كما أن لفظ «الحكم» فى نفس الآية كان المقصود به «الفصل فى النزاع» وليس سياسيا «وهو إدارة شؤون البلاد»، وهو معنى «اصطلاحى حديث».
وعن المثال الثانى، الآية «يا أيها النبى لِمَ تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك» فلو فسرت على عموم اللفظ لخرجت عن سياقها تماما، وكانت على محمل تحريم النبى لما يحلله الله له، ولن تفهم إلا فى سياق الحادثة ذاتها حين حرم النبى على نفسه أكل العسل حين تحدثت عنه إحدى زوجاته فى هذا الشأن، أو رواية أخرى قد قيلت عن واقعة مارية القطبية وحفصة بنت عمر.
والمثال الثالث الآية «وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه»، فلا تفهم إلا بسبب نزولها، وقد كانت عندما أخفى النبى فى نفسه قرار زواجه من زينب بنت جحش، وإلا فُهمت فهمًا خاطئًا كسابقتها.. وهكذا.
ولم يكن من حق عمر بن الخطاب وقف العمل بحد السرقة فى عام المجاعة، أو إبطال حكم المؤلفة قلوبهم وحقهم فى زكاة المسلمين، وكذلك وقف العمل بآيات «الخمس».. وباختصار، لقد كانت الغنائم توزع، الخمس لله ورسوله ولذى القربى واليتامى والمساكين، والأربعة أخماس للمجاهدين والغزاة «يفهم من النص».. فلما توسعت الفتوحات، حدد عمر بن الخطاب رواتب للجند حتى لا يُفتنوا من كثرة أموال الغنائم التى توزع عليهم، ومخافة أن يتكاسلوا وينصرفوا عن الغزوات، ولم يكن هذا الأمر سهلًا إلا إذا كان قد فهم الخليفة مقصد التشريع والحكمة منه، وكذلك علاقة النص القرآنى بالواقع والأحداث، واستجابته للواقع الذى يعيشه الناس والمصلحة التى تعود عليهم.. فلو غلبت الفائدة لعموم المسلمين فلا مانع من التغيير والتبديل أو حتى «النسخ»، وهذه مسؤولية ولى الأمر، وولى الأمر فى معناه العام هو الدولة.
هذا هو الفارق عندهم بين نظرية خلق القرآن «زمانى مكانى» ويعنى لنا (خصوصية السبب، ومقاصد التشريع، ودوران الحكم مع العلة وجودًا وعدمًا، والرجوع إلى المعنى وإلى دلالة النص ومقصده، وعلاقة النص بالواقع، وعدم سحب الحكم من الخاص إلى العام إلا إذا كان يحمل هذا واضحًا) وبين غير مخلوق «أزلى أبدى»، ويعنى لهم (عموم اللفظ، وعمومية الحكم حتى لو كان تنزيلًا خاصًا «سحب الحكم َمن الخاص إلى العام اعتمادا على اللفظ فقط دون المعنى»)، وهو فارق لو تعلمون عظيم، وهذا الأخير ليس إلا قاعدة فقهية وليست قاعدة شرعية تعتمد على اللفظ وليس على المعنى كما وضحنا من قبل، مثلًا كما جاء فى لفظ «الحكم» ولفظ «الكافرون»، فتم تفسيرها على معنى «الحكم»، وهو إدارة شؤون الأمة، و«الكافرون» على المعنى الاصطلاحى للكفر، وهو ضد ما نزلت به الآية وما يقصده رب التنزيل نفسه، فى أن «الحكم» هو الفصل فى النزاع، و«الكافرون» هم مَن ينكرون الحكم، وهى إساءة بالغة إلى المعنى المقصود، وخطأ فى التفسير والاستدلال، وخرو ج عن السياق والحكم القرآنى، وعن معانيه المقصودة.. وهو أخيرًا تسييس للأحكام ودعوة فى غير مَحلها.
الأسبوع القادم «فصل الخطاب».
نقلا عن المصرى اليوم