فاطمة ناعوت
ذهب شخصٌ لزيارة صديقه المريض. قدّم له باقةَ زهور كتب عليها: (لا شفاك الله). اندهش الصديقُ من صديقه الذى يدعو له بعدم الشفاء! وتزول الدهشةُ حين نعرفُ أن الرجلَ قد أغفل وضع «الفاصلة»؛ لتصيرَ الجملةُ الصحيحة: (لا، شفاكَ الله!). الفاصلةُ الصغيرة أوضحت أن (لا) استنكارية، وليست نافية، فالصديقُ استنكرَ مرضَ صديقه، ثم صمتَ برهة (الصمتُ هو الفاصلة)، ثم دعا له بالشفاء. غيابُ (الفاصلة الصغيرة) حوّل المعنى من (المحبة) إلى (العداء).
ولو قرأنا هذا الحوار بين رجل وسيدة: (أظنُّكِ لا تحبّين الأوبرا)، فتجيبُ السيدةُ: (لا، أحبُّها). هنا نفهم أنها تحبُّ الأوبرا. لو حُذِفتِ (الفاصلةُ) لفهمنا أن السيدةَ لا تحبُّ الأوبرا.
وكالعادة، مرَّ عيدُ ميلادِها دون أن يتذكّرَها أحدٌ ودون أن تُوقدَ لها شمعةٌ! الجميلةُ الساحرةُ الآسرةُ التى لا أحدَ يُحبُّها. من فرط جمالها، يكرهُها العشّاق! ثمّة درجاتٌ من الجمال تجعلُ الناسَ يهابون ويهربون. درجاتُ الجمال العُليا تُخيفُ فيؤثرُ الناسُ الفرارَ، ثم يتخفّون خلف الأشجار يرشقون الجميلةَ بالحجارة، ويشدّون الأقواس لتنطلقَ السهامُ تخترقُ قلبها.
١٨ ديسمبر ١٩٧٣ هو يومُ الاحتفال بها. ليس يومَ ميلادها بالطبع، فقد وُلدتِ الجميلةُ قبل الأزمان. ولكنه اليومُ الذى انتبه فيه العالمُ بأسره إلى سحرها وذكائها وغنجِها وألغاز أسرارها وسعة ثقافتِها وشساعة موسوعيتها، فاعترف بها الدبلوماسيون لتكونَ إحدى فاتنات العالم الست، المعتمدة رسميًّا فى الأمم المتحدة. إنها اللغةُ العربيةُ التى أجَلَّها العالمُ وسكَر بحلاوة كأسها، ويتبقّى أن يُجلّها الناطقون بها. فى مثل هذه الأيام عام ١٩٧٣، أصبحتِ اللغاتُ الستُّ المُتحدَث بها رسميًّا فى الأمم المتحدة هى: الروسية، الصينية، الإسبانية، الإنجليزية، الفرنسية، ثم العربية.
اختار اليونسكو يوم ٢١ فبراير من كلِّ عام يومًا للاحتفال بعيد «اللغة الأمّ» لدى الأمم المتحدة. وهو اليومُ الذى تحتفل به كلُّ دولة من دول العالم، باللغة الأمّ الخاصة بها. فاختار الروسُ يوم ٦ يونيو، وهو يوم ميلاد الشاعر الروسى «ألكسندر بوشكين»، واختار الصينيون ٢٠ أبريل، ذكرى «سانج چيه»، مؤسِّس الأبجدية الصينية، واختار الإنجليز ٢٣ أبريل يومَ ميلاد عظيم العالم الأديب الإنجليزى «وليم شكسبير». أما نحن، الناطقين بالعربية، فلم نختر مثلًا يومَ ميلاد المتنبى، أو طه حسين، أو أبى العلاء المعرّى، أو أبى الأسود الدؤلى، أو الخليل بن أحمد الفراهيدى، أو سيبويه، أو ابن رشد، أو أدونيس، أو درويش، أو غيرهم من عمالقة العربية، بل اخترنا يوم ١٨ ديسمبر ليكون عيدًا عالميًّا للغة العربية، وهو ذكرى اعتماد العربية لغةً رسمية فى الأمم المتحدة عام ١٩٧٣! وكأننا لا نعترفُ بلغتنا الجميلة إلا يومَ اعتراف العالم بها!
ولأننى أودّ أن يصفو مقالى هذا للاحتفال والاحتفاء، لا للنقد والتباكى على ما وصلت إليه لغتُنا الجميلة من حالٍ تعسة على ألسن الناطقين بها، سوف أختتم مقالى بطرفة وأحجية، نبتسم للأولى ونفكّر فى الثانية.
الطرفة: فى ستينيات القرن الماضى، قال مذيعُ الراديو: (والآن نستمعُ إلى أغنية: ٥١ بحبّه). ثم راح يُنصتُ مع المستمعين إلى الأغنية الجميلة بصوت الساحرة «نجاة الصغيرة»، وموسيقى العظيم «محمد عبدالوهاب»، وكلمات الشاعر الغنائى «أنور عبدالله». بعد الأغنية عاد المذيعُ يقول بنبرة اعتذار: كنتم مع أغنية: «آه بحبّه!». هل أخطأ المذيعُ؟ لا، بل أخطأ المُعدُّ كاتبُ الاسكريبت، الذى أغفل وضع أداة «المدّ» فوق حرف الألف (آ)، فقرأها المذيعُ: الرقم (١). وبالاستدعاء القياسى، ترجم عقلُه حرف «الهاء» إلى رقم: (٥)، فأضحت الكلمةُ: (٥١)، بدلًا من: (آه)! وضحكَ الناسُ كثيرًا على تلك الطُرفة سنواتٍ وسنوات. شرطةٌ صغيرة متموّجة فوق الحرف تغيّرُ المعنى، فيفقدُ الناسُ خيطَ التواصل بينهم: الحديث، الفهم.
الأحجية: اقرأ الجملة التالية ثم استخرج المعنى بعد وضع علامات الترقيم المناسبة. Woman without her man is nothing
الرجالُ سوف يكتبونها هكذا:
Woman، without her man، is nothing. (المرأةُ، دون رَجُلِها، لا قيمةَ لها).
أما النساءُ فسوف يكتبنها هكذا:
Woman: Without her، man is nothing. (المرأةُ: دونَها، الرجلُ لا قيمة له)
لا شىء أكثر من فاصلةٍ هنا ونقطتين هناك ليتغيرَ المعنى من النقيض إلى النقيض. كلّ سنة وأنت طيبة وجميلةٌ أيتها الفاتنة المهجورة.
«الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن، ويحترم لغةَ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم