إعداد وتقديم الباحث - عصام عاشور
استكمل الباحث عصام عاشور، الحديث عن تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وفى الحلقة السابعة تناول إستقرار الإحتلال الإنجليزى وكذب إدعاءتهم بأنه إحتلال مؤقت، فصارت مصر بلداً محتلاً لأكثر من سبعين عامًا، وموت الخديوى توفيق.
وقال عاشور، خلال برنامجه "الحكاء.. شذرات من تاريخنا" والمذاع كل خميس على شاشة الأقباط متحدون، بعد أن استقرت للإحتلال الإنجليزى وعلى الفور حضر فى 7 نوفمبر 1882 سفير بريطانيا لدى الخلافة العثمانية (دوفرين) ليمكث بمصر أربعة أشهر يعد خلالها تقريراً يقول أنه لإصلاح الأحوال فى مصر وليكون دستوراً للبلاد فى عهد الإحتلال.
ينطق الكذب من فم دوفرين حين كان يكتب أو يقول فى كل مكان (ليس لدينا رغبة فى الإحتفاظ بالسلطة التى آلت إلينا.. وإن كل ما نريده هو أن نهيئ لمصر كل أسباب الرقى والتقدم وأن نغرس فى أرضها بذور الحرية ولكى تقوم نظم مستنيرة حكيمة وذلك بأن يجلس على عرشها حاكم يبعث الثقة .. وحكومة تكفل الحرية والعدالة ويتولاها رجال متميزون بالكفاءة والنزاهة وهذا كل ما نرى أنه واجبنا نحو مصر).
والحقيقة أن تقريره أو دستوره لإصلاح مصر كما كان يدعى.. كان عن عبارة عن توصيات أو أوامر للخديوى توفيق تضمنت :
حل الجيش المصرى – وضع البوليس تحت إشراف الضباط الإنجليز – تعيين نائب عام إنجليزى ويكون فى نفس الوقت مستشاراً لوزير الحقانية (العدل) وكذلك تعيين قاضى أوربى فى كل محكمة إبتدائية – تعيين خبير إنجليزى يتولى كل مسؤلية الرى والإشراف على كل مسائل الزراعة – ضرورة أن يتلقى الأطفال تعليمهم باللغة العامية وليس باللغة العربية الفصحى مع فرض اللغة الإنجليزية لتأهيل الشعب – تنظيم تسديد الدين وإنتظام سداد الأقساط فى مواعيدها.
وعلى الفور أصدر الخديوى توفيق المراسيم المنفذه لهذه الأوامر.. وتولت الحكومة التنفيذ حتى قبل أن يغادر دوفرين مصر.
تم تعيين قنصل جديد لم يكن غريباً عن مصر.. فقد كان يشغل منصب العضو البريطانى فى صندوق الدين منذ عهد الخديوى إسماعيل .. هو (إيفلين يارنج) وهو الذى سمى فيما بعد بـ"اللورد كرومر".. وقد عمل هذا القنصل على إختراع كل الأساطير سياسياً وإقتصادياً وثقافياً .. تمهيداً لإعلان الحماية على مصر وضمها إلى مستعمرات التاج البريطانى .. لتكون الجوهرة الثانية فى هذا التاج بعد الهند.
كان إيفلين يارنج يتحرك فى كل مكان مخاطباً النخب والشعب المصرى :
إن مهمته هى إرشاد الحكومة البريطانية إلى أفضل النظم لإدارة بلد كان عليها أن تحتله رغم إرادتها. وأن مصر تعنى له أولاً وأخيراً الفلاحين الذين هم الغالبية العظمى من أهلها .. وإنه يحمل لهم فى نفسه عطفاً شديداً لتعاستهم الصارخة !!!
كما كان يوحى دائماً للشعب أن الله قيضه لكى ينتشل الفلاح المصرى الذى عانى سبعين قرناً من الإستبداد وإستنزاف الموارد. وإنه يعرف أن الفلاح المصرى لم يتغير فى شئ وأنه يظل على نفس الحال الذى كان عليه منذ خمسة آلاف عام.
وأن الشعب المصرى شعب مقهور كما لم يقهر أى شعب آخر فى التاريخ وقد توالى عليه بلا إنقطاع غزاة وحكام أجانب طغاة ومستبدون ومستغلون.
هكذا كان هذا القنصل الإنجليزى المنحدر أصلاً من أصول أرستقراطية يغازل الشعب وفى نفس الوقت يغازل النخبة المتفرنجة أو المتطلعة للفرنجة والفئات المستعدة والجاهزة للعمالة والموالاه والتعامل والإستفادة من الإحتلال.
وكان بجانب كل ذلك شديد التحيز ضد الحضارة المصرية الفرعونية .. وأيضاً كان شديد التحيز ضد الحضارة العربية الإسلامية.
وعلى العموماً لم يقدم هذا القنصل أى نوع من الإصلاح .. ولكن قدم نوعاً آخر من الإستنزاف .. فقد أعاد توزيع الأرض على طبقة من الموالين المصريين والأجانب .. وتحولت مصر إلى إنتاج (المحصول الواحد) وهو القطن .. لتصديره إلى مصانع لانكشاير .. وبالتالى حتى ترتبط مصر بلا فكاك بعجلة الإقتصاد الإمبراطورى الإنجليزى.
لم يجد هذا القنصل الترحيب طبعاً إلا من طبقة المستفيدين .. ولكن كان أهم المرحبين به هو الخديوى توفيق حيث صرح قائلاً :
لقد أنقذ الإنجليز حياتى وأعادونى إلى عرشى وانتشلوا بلادى من الفوضى والدمار .. وهم يضيفون كل يوم إنجازاً جديداً .. ويبذلون أقصى الجهد فى تنظيم إدارتها والنهوض بها.
وفى سنة 1884 رفض رئيس الوزراء شريف باشا تنفيذ طلباً للحكومة البريطانية .. بإخلاء السودان أى الإنسحاب المصرى .. حيث كان السودان مشتعلاً بالثورة المهدية منذ عام 1881 .. وقال شريف باشا قولته المشهورة أن (السودان أمانة فى أيدينا وهو ألزم لمصر من الإسكندرية .. وإننا لو تركناه فإنه لن يتركنا) ... على فكرة صارت هذه المقولة مثلاً وشعاراً فى علاقة مصر بالسودان.
لكن كان رد بريطانياً حاسما .. بل وصار رد بريطانيا هو أساس الحكم وقاعدته فى مصر بعدها وكان رد بريطانيا على رفض رئيس الوزراء إخلاء السودان .. برقية لوزير الخارجية إلى رئيس الوزراء تقول :
لا أرى حاجة لأن أوضح أنه من الواجب مادام الإحتلال البريطانى المؤقت قائماً فى مصر .. أن تتأكد حكومة جلالة الملكة من ضرورة إتباع النصائح التى ترى تقديمها إلى الخديوى فى كل المسائل الهامة التى تتعلق بأمن مصر وحمايتها من الخطر .. ويجب على النظار والمديرين المصريين أن يكونوا على بينة من أن المسؤلية الملقاة على عاتق الحكومة البريطانية تضطرها إلى أن تصر على إتباع السياسة التى تقرها ويتحتم على أى وزير أو مدير لا يتصرف وفقاً لها أن يتخلى عن منصبه .. وتثق حكومة جلالة الملكة أن هناك من الذين شغلوا منصب الوزارة من قبل أو منصب أقل درجة من هم على إستعداد تام ليكونوا البديل وينفذوا الأوامر التى يصدرها الخديوى بناء على نصائح حكومة جلالة الملكة.
قام القنصل بتسليم البرقية إلى رئيس الوزراء وقال لرئيس الوزراء لدى تعليمات بأنه إذا رفض المصريون تشكيل حكومة جديدة أن أتولى بنفسى إدارة البلاد مباشرةً. فإستقال شريف باشا رئيس الوزراء على الفور.
وآلت مقاليد الحكم إلى رئيس وزراء ظل ثلاثة عشر عاماً فى المنصب وهو (نوبار باشا) .. فكان يبدأ يومه ويختتمه بتلقى تعليمات فخامة اللورد الإنجليزى سواء أكانت صغيرة أم كبيرة ويحرص على تنفيذها بكل تفاصيلها.
وفى عام 1892 أنعمت جلالة ملكة بريطانيا على السير إيفلين يارنج القنصل الإنجليزى فى مصر بأرفع الأوسمة والألقاب نظير ما قام بتحقيقه لبريطلنيا فى مصروصار منذ ذلك التاريخ لقبه (اللورد كرومر) وكان أول المهنئين له هو الخديوى توفيق.
والمصيبة .. أن الصحف الإنجليزية قد إحتفت باللورد كرومر وإليكم بعض ما قالته هذه الصحف فى حق هذا الرجل :
(الرجل الذى إستطاع أن يحقق كل ما وعد به لدى توليه المنصب " قنصل بريطانيا فى مصر" .. والذى بعث مصر من العدم وأحياها بعد موت طويل وأكد الثقة فى العبقرية البريطانية وفى رسالتها التاريخية) ... لا أستطيع إلا أن أقول يا لا الهول بصوت يوسف بك وهبى.
وقالت الصحف أيضاً (إن وجود مصر الحقيقى وتاريخها الحديث إنما يبدأ منذ تولى فخامة اللورد شئونها وإنتقل بها من الظلمات الحالكة إلى النور)
وزايدت صحف أخرى فوصفته ب (مؤسس مصر الحديثة والذى حمل إليها كل فضائل الحضارة الأوربية المسيحية .. سيدة الحضارات)
فهل هناك كذب وتدليس أكثر من هذا ؟
مرض الخديوى توفيق لمدة أسبوع .. وتوفى فى يوم 7 يناير 1892 وهكذا تنطوى صفحة حاكم سبق أن وصفه والده الخديوى إسماعي قائلاً :
إنه أمير يحمل نفسية العبد ويفتقر إلى العقل والقلب والشجاعة .. وقد كان يتآمر مع القناصل ضدى .. رغم أننى إمتهنت نفسى وركعت تحت أقدام السلطان وملأت جيوبه بالذهب لكى أغير قانون الوراثة .. حتى يصبح توفيق خديوى بعدى.
وكان الخديوى إسماعيل عند وفاة توفيق لا يزال على قيد الحياة فى منفاه .. وتلقى الخبر بارداً صامتاً فقد كان شديد الإزدراء والإحتقار له. هذا وقد تناولت الصحف الأجنبية وخاصة الإنجليزية خبر وفاته .. حيث كتبت صحيفة (الكرونيكل) لم يكن أكثر من دمية مطيعة فى يد بريطانيا .
وكتبت (المانشستر جارديان) يكفى أن يطوف الزائر بمصر أسبوعاً واحداً متجولاً فى أرجائها لكى يدرك أن أبغض شخصية إلى الأهالى وأحقرها هو الخديوى وكتبت (فارايتى) كان كائناً أليفاً لطيفاً محدود المواهب دائم الشك فى كل شئ وكل أحد ويفتقد الثقة فى نفسه ...
حتى أن اللورد كرومر والذى كان توفيق أكثر من خادم مطيع له .. لم يسترسل فى رثائه واختصر فى بيان فضائله ومزاياه على أنه أى توفيق (كان إنساناً طيباً ومخلصاً ومؤمناً بالتعاون الكامل معى ولم يحدث خلال عشر سنوات تعاملت خلالها معه أن آثار أى مشكلة أو إعتراض). أيضاً لابد وأن نذكر كيف أنصف بعض الكتاب الإنجليز عرابى .
حيث كتب المستر (ماك كون) فى كتابه عن مصر ..
"لم يكن عرابى يحمل لتوفيق أى ضغينة بل على العكس كان يود لو تحالف معه لتنفيذ البرنامج الوطنى لكن توفيق غدر به وخانه متعمداً.. وفضل أن تحتل بريطانيا مصر .. لهذا لن يسامحه المصريون وسيظل ملعوناً فى تاريخهم إلى الأبد".
ومع إنطواء هذه الصفحة السوداء من تاريخنا .. حتماً سيتولد الضوء .. وستلد الحركة الوطنية المصرية أبطالها الذين سيقودون حركة هذا الشعب العظيم.