فى حياة كل منا أيام لا تنسى، يمكن أن نطلق عليها بالفعل (أيام لها تاريخ) كما قام بتعريفها ببلاغة بديعة كاتبنا الكبير الراحل «أحمد بهاء الدين» فى كتابه الشهير بذات العنوان، لارتباطها بأحداث أو مواقف وطنية وتاريخية أو حتى شخصية هامة، كانت تمثل مراحل تحول أو تغيير مفصلية لدينا، لتترك فى ذاكرتنا مجموعة مشاهد نستدعيها من آن إلى آخر لأسباب تتنوع مقاصدها وفق أهمية ودلالة الحدث، فقد يكون للتدليل على صواب مواقفنا أو للاعتذار عن خطأ ما فى تقديراتنا لها، أو للسرد والحكى لأجيال لم تعش دراما الحدث.

أذكر أنه وعقب إعلان الرئيس جمال عبد الناصر قرار التنحى، بعد نكسة يونيو 1967 عبر خطابه الشهير، والذى أعقبه بساعات قليلة فى مدينتنا الصغيرة تحرك كاهن الكنيسة ليجتمع بإمام وخطيب الجامع الأقرب إليه للاتجاه إلى قصر ثقافة المدينة لدعوة الجماهير للاحتشاد رفضًا لقرار التنحى، ولم يكن الأمر فى حاجة لتوجيه الجماهير، فقد حزم الجميع الأمر على الانطلاق بسرعة إلى القاهرة ليؤكدوا رفض أبناء المحافظة للقرار فى مظاهرات حماسية تعلن اعتزامها تكملة المشوار مع الزعيم.

وعليه، تحول قصر الثقافة منذ اليوم التالى إلى بيت وطنى مرحب بمواطنيه ورواده، ومركز ثقافى وطنى داعم لإعلان موقف سياسى موحد للعمل على إزالة آثار العدوان (وفق التعبير والشعار المرفوع آنئذ)، وحشد كل الطاقات لتحفيز الناس كل فى موقعه للاستعداد لخوض معركة تحرير الأرض.

وأذكر كيف تحلقت الجماهير داخل القصر حول الشاعر والرسام الكبير «صلاح جاهين» ــ الذى يمر على يوم مولده هذا الأسبوع 90 عامًا ــ فى اليوم التالى فى احتفالية رائعة مع عزف على العود للموسيقار الكبير الجميل «سليمان جميل» ضيف تلك الأمسية أيضًا، غنى «جاهين» بمصاحبة عود «جميل» للناس ومع الناس معظم الإغانى الوطنية المعروفة فى تلك الفترة وردد أجمل الأشعار بالمناسبة، ولم نره مُحبطًا متخاذلًا بعد النكسة بالصورة التى أشاعها البعض عنه، وهو الذى أصر أن يشاركه الجميع الغناء وظل يبث حالة من الفخار بحب الوطن بإصرار الواثق بانتصار شعبه وتجاوز تلك النكسة..غنى معهم «بالأحضان يا بلادنا الحلوة/ فى ميعادك يتلموا ولادك/ يا بلادنا وتعود أعيادنا/ والغايب ماطقش بعادك/ يرجع يخدك بالأحضان»، ومع كورال الحضور غنى الجميع كلماته التى شدا بها عندليب الثورة حليم «صورة صورة صورة كلنا كدا عايزين صورة/ صورة صورة صورة تحت الراية المنصورة/ صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة».. ومع بزوغ فجر اليوم التالى أصر كل الحضور على مرافقة «جاهين» و«جميل » حتى محطة القطار وتوديعهما بعد يوم له تاريخ مهم عندى، وليلة لم ينسها أهل بلدتى فى حب الوطن.
نقلا عن المصرى اليوم