نبيل عبدالفتاح
الهوية القومية.. تمثل أحد مكونات الآلة المفهومية والاصطلاحية الحداثية، المرتبطة بالتطور التاريخي للرأسمالية الأوروبية، وتَمدُّدِها.. وتوحيدها للأسواق؛ ومن ثم للمجتمعات الأوروبية.. حول الدولة الأمة، التي ساهمت في تشكيلها بقوة الحركات القومية.

عززت الهوية القومية القيم السياسية الليبرالية.. والنظام الديمقراطي في عديد أشكاله – نموذج الدولة اليعقوبية الفرنسية، ووستمنستر البريطاني – ومبدأ «رجل واحد.. صوت واحد»، وتَشكُّل التعددية السياسية والحزبية، والأهم الثقافة السياسية الديمقراطية.. في أطر التعليم وأنظمته، والمنظومات القانونية الوضعية، وهندساتها الحديثة.. التي كرست دولة القانون والحق.

نحن إذن.. أمام مفهوم حداثي سياسي وثقافي.. وقانوني بامتياز، وهو تحديد دولتي (لمفهوم الدولة)؛ من حيث نظام الجنسية، وشروط التمتع بها، والأسس التي تنهض عليها نظرياً وتطبيقياً.

ساعدت وحدة اللغة – السائدة في كل دولة – وفرضها على جميع المواطنين، في عملية التوحيد الهوياتي التاريخية، على الرغم من وجود بعض المقاطعات.. كانت لديها لغتها ولهجاتها الخاصة. لكن التوحيد والدمج لهذه المقاطعات.. مع توحيد الأسواق، أدى – تاريخياً – إلى التوحيد اللغوي، الذي ساهم – من خلال سياسات التكامل الوطني –  في تكريس الهوية القومية، ومحمولاتها التخييلية، وأساطيرها السياسية.

المخيال القومي وذاكراته في بناء الهوية، لم يعتمد على التكوين المغلق.. والأحادي للهوية، في مجتمعات ترتكز تاريخياً على التراث الثقافي اليهودي-المسيحي فقط، وإنما على مصادر متعددة، وتتسم بالدينامية والتفاعلات بين هذه المكونات تاريخياً، ومن ثم لم تتمحور حول المكون الديني، لأن تطور النماذج العلمانية الأوروبية – الفرنسية والبريطانية.. والإيطالية والألمانية – اتسم بعضها بالخصوصيات القومية لكل دولة، وميراثها الثقافي والحضاري، وتفاعلاتها الاجتماعية الداخلية، وانفتاحها على التجارب العلمانية الأخرى؛ في ظل خصوصياتها وذاتيتها السياسية والثقافية.

تطورت الأنظمة السياسية الأوروبية.. ونماذجها مع التطورات التقنية وثوراتها المتعددة، وتراكمات الخبرات السياسية والاجتماعية، وتطور المجتمعات المدنية، وخاصة في ظل انفصال الوضعي عن الميتا-وضعي، في القانون، والسياسة، ومفهوم المواطنة وحقوقها، ورسوخ الحريات العامة والفردية.

مفهوم الهوية القومية.. لم يؤدِّ إلى إزاحة روافدها المتعددة، ولا الهويات الأخرى، ولا إقصائها واستبعادها، وإنما شكلت مصادر حركية وحيوية للهوية الجامعة. الهوية القومية.. لم تنفِ الهوية الفردية التي ارتكز عليها مفهوم المواطنة؛ حول الفرد والثقافة الفردانية – التي بُنيت عليها الليبرالية الأوروبية والغربية – وذلك انطلاقاً من مفاهيم الحداثة السياسية والقانونية.. حول الفرد كمركز للكون فلسفياً، والعقل والعقلانية، ومفاهيم التقدم والتطور.. مع وصول الحداثة الغربية إلى مأزقها التاريخي، ومعها مفاهيم الحقيقة والعقل.. والسرديات الكبرى، التي دار مفهوم الهوية القومية – كجزء من هذه المنظومة الفلسفة والسياسية – كجزء من أنسجتها، وبدأ تطور المجتمعات الأوروبية.. في التحول إلى مجتمع الاستعراض، والإنسان الاستهلاكيز وتحول كل ما هو حقيقي.. إلى تمثيل واستعراض، في ظل ثورة الاستهلاك للسلع والخدمات.. مع الثورة الصناعية الثالثة.

أدى هذا التحول إلى الشرط ما بعد الحديث – وفق ليوتار- وإلى عالم النسبيات، وإلى بروز هويات متجاورة حول النوع الاجتماعي – ذكر وأنثى – والمهنة… إلخ.

انهيار السرديات الكبرى، وبروز الأيديولوجيات الناعمة.. حول حقوق الإنسان، والتآكل المستمر في الأحزاب الكبرى في فرنسا، والنزوع إلى التمحور حول الوسط، ويمين الوسط، ثم تزايد التراجع في جاذبية وفعالية الأحزاب السياسية، وقدرتها على تمثيل المصالح الاجتماعية لقاعدتها، والتعبير عنها، من منظور برامج كل حزب.. كما في المثال الفرنسي.

أدى التحول إلى ما بعد الحداثة، والأجيال الشابة الجديدة.. في أوروبا وغيرها من دول شمال العالم الأكثر تطوراً، إلى طرح عديد الإشكاليات على مفاهيم مثل القومية والأمة والسيادة في ظل تغيرات العولمة، ووحدة الأسواق.

تتآكل هذه المفاهيم نسبياً.. لصالح ديانة السوق النيو ليبرالية، وانعكاساتها الاجتماعية القاسية على الطبقات العاملة والوسطى، على نحو ما يحدث في فرنسا ودول أوروبية أخرى، حيث ترتفع معدلات البطالة، وتزايد أسعار السلع والخدمات، أدت أيضاً الرقمنة إلى بدء تحولات نحو مفاهيم جديدة للعمل، ومكانه ونوعيته، على نحو يؤدي إلى خروج ملايين من العمال عن دائرة العمل، لأن أعمالهم وخبراتهم السابقة تغيرت، ولم تعد قائمة ولا تحتاجها الشركات الكبرى، وتقوم بها الأناسي الآلية (Robots) من مثيل التسويق والتوزيع الآلي، والعامل الآلي، والتصنيع الآلي المرقمن، وهو اتجاه سيتزايد سنوياً مع ثورتي الرقمنة والذكاء الصناعي، والتطوير المتزايد للإنسان الآلي، وأدواره في الإنتاج والتسويق والتوزيع… إلخ، بل وربما في تطويره الذاتي، وفي الإدارة الرقمية.

لا شك أن هذه التطورات الرقمية والذكاء الصناعي.. سيكون لهما انعكاسات على الحياة الاجتماعية، والأنشطة السياسية، وعلى منظومات القيم والثقافة، والتفاعلات الاجتماعية، وبين الإنسان والإنسان الآلي.. في المقبل من السنوات والعقود القادمة؛ بما تحمله من عدم اليقين والغموض.

ولا شك أن هذا التحول إلى عالم الروبوتات سيمتد إلى مجالات كثيرة، ولن يقتصر فقط على حلول الإنسان الآلي محل الإنسان الطبيعي في الإنتاج والوظائف الخدمية، وفي تحول التعليم إلى الرقمنة، وتأثيرات ذلك على الفنون، والآداب والسينما والمسرح والغناء والموسيقى… إلخ، وهو ما بدأ مع فيروس كورونا، وأثناءه، وسيتزايد ما بعد صدمة الفيروس المتحول.

إن الحديث فلسفياً وسوسيولوجياً حول ما بعد الإنسان، يدور حول التداخل بين الإنسان والروبوتات، وتدخل الذكاء الصناعي في التكوينات الجينية للإنسان لرفع معدلات الذكاء، وفي التغيير الجيني من أجل مواجهة الأمراض، وإدخال بعض الشرائح الذكية/ الرقمية في العقل والجسد الإنساني.. ستساهم في إحداث تغييرات في الطبيعة الإنسانية، لاسيما أن فيروس كوورونا المتحول.. أحدث انكشافاً في الحياة الإنسانية، وألقى بظلال من الشكوك حول مقولات الإنسان مركز الكون في علاقته بالطبيعة، وبروز مشكلات البيئة التي تزداد مخاطرها على أنماط الحياة في عالمنا.

هذه التغيرات، لا شك أنها ستلقي بظلالها على مفهوم الهوية الوطنية، وستؤدي إلى سرعة وكثافة عمليات التشظي في تكوين المجتمعات والدول، وفي الذاكرات الجماعية، وتخييلات الهوية الكلية، والهويات الأخرى، بل وعلى هوية الفرد ذاته، أي على مستويات الإدراك والوعي الجمعي والوعي الفردي؛ ومن ثم بناء الهويات ذاتها، وربما على مفهوم الهوية.. الذي قد يغدو مفهوماً تاريخياً وحداثياً، سينتهي، وتحل محله مفاهيم أخرى، ومسميات واصطلاحات جديدة تماماً، تكون قادرة على وصف وتحليل الوضعية والشرط الإنساني المتغير وما بعد الإنساني، إذا استمرت أوضاع التطور في اللغة والمصطلحات المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة، وتحل بديلاً عن مصطلحات وفلسفات ما بعد الحداثة وما بعدها، ناهيك عن الحداثة ذاتها التي تم التشكيك فيها، وفي ظل حقائقها ومسلماتها، وتنظيمها الاجتماعي والسياسي، وسردياتها الكبرى التي انهارت.

لا شك أن أثر ثورتي الرقمنة والذكاء الصناعي، وعالم الفيروسات الغامضة والمتحولة، ستساهم في إحداث تحولات في النظم السياسية والحزبية، ومدى فعالياتها في تمثيل أنماط جديدة من المصالح.. للقوى الجديدة التي ستظهر من خلال التحول إلى عالم الإنسان، والإنسان الآلي والذكاء الصناعي.

بالطبع قد تتغير بعض المؤسسات السياسية، وتحاول التكيف مع هذه التغيرات، لكنها لن تدوم طويلاً، وستحل محلها أشكال مختلفة تعتمد على الرقمنة، وما سوف يحدث بعدها.

هذه التغيرات – التي يحدث بعضها الآن – ستتحول في المقبل من السنوات والعقود إلى عالم مختلف تماماً لم تشهده الحضارات الإنسانية كلها، ولا التاريخ الإنساني؛ من ثم تطرح أسئلة على دعاة الهوية الدينية المغلقة من منظري الجماعات الدينية السياسية، أو الهويات العرقية، أو حول النوع الإنساني – ذكر وأنثى – أسئلة صادمة، لأن موضوع الهوية كمفهوم وتنظيرات أحادية وتاريخية، سيكون قد طُوي ضمن ما سيُطوى في العالم الجديد الذي تتخلق بعض من ملامحه في حاضرنا. عالم يبدو مخيفاً، يحملُ مستقبلاً غامضاً للشرط الإنساني، ووجوده، وتاريخه.
نقلا عن الأهرام