سحر الجعارة
(توجيهات من الرئيس عبدالفتاح السيسى «بالتحول نحو دولة مدنية ديمقراطية حديثة»)، هذا التصريح المنسوب إلى رئيس الوزراء الدكتور «مصطفى مدبولى» -كما أفهمه- معناه أننا فى دولة يحكمها الدستور والقانون، وهذا يسرى على سائر المواطنين «دون تمييز».. وأننا فى دولة لا تخضع للكهنوت الدينى ولا يتحكم فى مسارها ملالى السنة.
ببساطة شديدة: «السلطة السياسية» تقود البلاد، والسلطة التشريعية تحدد بوصلة التغيير، «نحو ديمقراطية فاعلة وقواعد مدنية راسخة»، والسلطة التنفيذية «الحكومة» تكرس وجودهما على الأرض، و«القضاء» هو المرجعية الأخيرة للفصل بين السلطات.. ولتحقيق «العدالة والمساواة» بين الأفراد.
لا مجال -هنا- لفتوى متطرفة تضرب الوحدة الوطنية مثلاً (تحريم تهنئة الأقباط فى أعيادهم)، ولا فتوى تطيح بأرواح البشر فى جائحة كورونا ليكون (المسجد قبل الساجد)، ولا فتوى تُسقط الاقتصاد (فعلها مصطفى العدوى بتحريم شراء سندات قناة السويس الجديدة).. إذن «مولد الفتاوى» انفضّ.
وهذا يتطلب أولاً مواجهة حاسمة من «القيادة السياسية المنتخبة» لسيل الفتاوى المنتشر، (خصوصاً على السوشيال ميديا)، لأن «ولى الأمر» هو السلطة الوحيدة القادرة على تغيير الفكر الدينى وتجديده، مهما كان مدججاً بفتاوى شاذة ومتخلفة تعود بالبلاد إلى أيام الجاهلية.
وحتى نلخص المشهد السياسى - الاجتماعى الآن، فإن هرم السلطة مقلوب، «الأزهر الشريف» أصبح «دولة موازية» تتحكم فى شئون البلاد والعباد، فترفض تقنين «الطلاق الشفهى» تأكيداً لنفوذها وسطوتها على المجتمع، فالمؤسسة الدينية تعتبر نفسها فوق الدستور والقانون والبرلمان، وكأن الأزهر يحكم مصر من الباطن، والفيصل فى تغيير أى قانون أو تحديث هو رأى «ملالى الأزهر»!.
هذا إلى جانب فريق من أشبال «الأزهر قادم» سمّم حياة النساء وأهدر دماء الأقباط رافعاً «راية الفتوى».. أصبح وصم النساء بـ«الفسق والفجور» أغلالاً تقيد النساء وتحرمهم من العلم والعمل والميراث، (لأن ذكورة الداعية مُستفزة)، أو تحرض على هدم الكنائس وتطيح بقيم «المواطنة» ليعود المسيحيون من «أهل الذمة ويجب عليهم دفع الجزية».. وهذه مجرد أمثلة لما فعلته فوضى الفتاوى بالمجتمع.. هذا بخلاف «تكفير» تيار التنوير والإصلاح بزعم أنه «لا اجتهاد مع النص».. وأن السنة (بأحاديثها الضعيفة والمنسوبة زوراً للنبى الكريم) تشكل ثلاثة أرباع الدين!.
وقد سبق أن أوضحت فى إحدى المناظرات التليفزيونية أن «اتفاقية جنيف» سبتمبر ١٩٢٦ للقضاء على الرق قد عطلت نصاً قرآنياً، ولدينا نماذج أخرى كثيرة فى التاريخ الإسلامى (إلغاء حد السرقة فى عام المجاعة، وتعطيل سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، هذا ما فعله سيدنا «عمر بن الخطاب».. وكذلك استبدال الحدود الثابتة بنصوص قطعية كقطع الأيدى بعقوبات مدنية حالياً).. لكن يظل الاجتهاد فى أحكام المواريث «زندقة وكفر» طبقاً لرأى الأزهر!.
المأساة بكل أسف، أن لدينا ترسانة قوانين، (صدرت فى عهد مبارك)، يحتوى بعضها على جمل مطاطة تمكن من نصبوا أنفسهم «وكلاء الله على الأرض» من حكم البلاد والعباد.. قانون الازدراء مثلاً!.
معظم القوانين المتعلقة بالحريات العامة والشخصية، مليئة بالثغرات التى جعلت «كتائب الحسبة» تنتشر وتتغول على «السلطة المدنية»: كل ملابس النساء «فسق وفجور» لأنها لا ترفع شعارهم السياسى «الحجاب».. وكل الفعاليات الفنية «عهر» لأنها تطغى على حضورهم الكئيب بإبداع فنى مبهر.. كل النقد «يخدش الرونق» لأنهم أنصاف آلهة.. إعمال العقل حرام لأن علينا «السمع والطاعة» لكبيرهم الذى علمهم الفتى!.
أتصور أن أهم واجبات «مجلس النواب» الجديد هو تنقية القوانين من الثغرات التى جعلت «التحريم مناخاً عاماً».. الدولة «المدنية الديمقراطية الحديثة» لا تسجن مفكراً لأن مؤسسة الأزهر لم ترضَ عنه «إسلام بحيرى نموذجاً».. ولا تسمح برفع دعوى قضائية لمنع فيلم أو أغنية أو مصادرة كتاب.. ولا تقبل بـ«رمى المحصنات بالباطل» بأبشع أنواع السب والقذف.. ولا تحاكم صورة أو «كليب» لفتاة على «السوشيال ميديا».. الدولة «المدنية الديمقراطية الحديثة» عمودها الفقرى «الحرية»، والفرق بين الحرية والفوضى يحدده القانون.
«الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة» تحترم المواثيق والمعاهدات الدولية التى وقعت عليها، فلا نجد قرية بأكملها يتم بيع فتياتها للأثرياء العرب بما يسمى «الزواج السياحى».. رغم توقيع مصر على اتفاقية جنيف واتفاقية السيداو.. ولدينا أيضاً القانون المصرى رقم ٦٤ لسنة ٢٠١٠ الذى ينص على اعتبار «الزواج المبكر» حالة من حالات «الاتجار بالبشر» تصل عقوبتها للمؤبد.. ورغم ذلك فلا أحد يعاقَب أو يُلام.. لأننا نسير على منهج «ابن تيمية» الذى يرى جواز إجبار الصغيرة البكر غير البالغة على الزواج دون استئذانها.
إنهم يتركون لحم بناتنا للبيع لمطاردة «فستان فنانة» أو «كليب راقص»، وينتفض المجتمع دفاعاً عن «الشرف» بينما د. «سعاد صالح» تصف غشاء البكارة المزيف بأنه «ستر».. هذه الازدواجية فى معايير الحكم على البشر لا يحلها إلا قانون «واضح ومحدد»، قانون ليس به مفاهيم ملتبسة أو غامضة، ولا جمل مطاطية قد تحول الفستان العارى إلى قضية أمن قومى.. وتترك داعية «الأزهر قادم» ينشر الفتنة ويتغزل فى الأعداء!.
ليكن وطناً بلا «آلهة من عجوة» لا يقدس إلا «الإنسان» ولا يخضع إلا للقانون.. ليكن مجتمعاً «نظيفاً» لا مكان فيه لفقهاء الجنس ممن يبررون التحرش بالنساء، ويبررون للمهووسين جنسياً ممارسة البيدوفليا (pedophilia).. أى التمتع الجنسى بالأطفال.
حين تصبح «حقوق الإنسان» هى الأعلى صوتاً، والقوى الناعمة هى الأكثر تأثيراً، والحرية الشخصية مقدسة ومصانة.. حين يصبح القانون «سيد الموقف» بعد أن يتم تنقيته.. ساعتها فقط سوف نتحدث عن آليات الديمقراطية فى «دولة مدنية حديثة».
نقلا عن الوطن