الأنبا إرميا
يقولون: «مع قرب نهاية العام الحالى، حاول أن تتخلص من أى شىء لا يستحق الانتقال معك للعام الجديد.».. ساعات معدودة ونودع عام 2020م، حاملًا معه كل ما مر بنا من أفراح وأحزان، من هدوء واضطرابات؛ ليأتى عام جديد حامل آمالًا جديدة، وآمالًا أن يمتلئ بالسلام والسعادة والخير لكل إنسان، ولنبدأه بـ«السلام».
بدأ الحديث بمقالات سابقة عن «السلام»: أحد الاحتياجات الأساسية والمُلحة للعالم الآن؛ فما يعيشه البشر من اضطرابات وضغوط وصراعات لن يقود إلا إلى مزيد من الآلام. وقد ذكرنا أن السلام يبدأ من داخل الإنسان بالمصالحة مع الله، ومن ثَم يبدأ الإنسان الانسجام والتوافق مع نفسه، ثم تتسع دائرة السلام إلى الآخرين، بدعائم مهمة كالقواعد الإنسانية المشتركة التى تجمع البشر جميعًا.
كذلك يُعد فَهم «التنوع والتعددية» وقبولهما إحدى أهم دعائم السلام بين البشر. كتب د. «سمير عميش» فى كتاب «التعددية والتنوع»: «البشر ـ كما هو واضح ـ مصنفون بين ذكر وأنثى، متعددو الصفات والسمات: بين أسمر وأبيض، قصير وطويل، وغيرها.
وهذا التعدد يلاحظ بوضوح أيضًا فى صفات أبناء الأسرة الواحدة وسماتهم، باستثناء حالات محددة من التوأمة؛ بهذا المعنى الذى رسمته لنا الطبيعة المعبرة عن عظمة خالقها، تنير لنا فَهم (التعددية والتنوع) بأوضح معانيهما وأبسطها، كظاهرة طبيعية حَرِيّة بالتذكر والتفكير بضروراتها وأهمية وجودها.». إن التنوع هو إحدى نِعم الله الظاهرة فى جميع خليقته، فنراه فى النباتات والحيوانات من حيث الشكل والحجم والفائدة للإنسان، ونراه أيضًا بوضوح فى تكوين الإنسان بأعضائه المتنوعة التى لكل منها وظيفة خاصة، وباكتمال هذه الوظائف معًا يتمكن الإنسان من الحياة والعمل بإيجابية؛ وإلى جانب هذه: التنوع بين الأفراد. وبالنظر فى المجتمعات، نجد التنوع يرسم سماته المتميزة من خلال تنوّع أفراده، فكل إنسان يحمل خصائص مختلفة تجعله متميزًا عن غيره، ومن هذه الخصائص ما لا يتكرر بين شخصين، إلى جانب تنوع الخلفيات والقيم الشخصية والمعتقدات والتقاليد والتعليم والخبرات، والتنوع بين كبار وصغار، وبين رجال ونساء، وبين مواهب وإمكانات وقدرات. من هذا المنطلق، على الإنسان أن يدرك أن التنوع هو سمة الحياة التى خلقها الله، وعليه تنطوى مميزات عديدة. إن قَبول الإنسان للتنوع يُعد تميزًا للمجتمع، حيث يتمكن أبناء المجتمع الواحد من التعامل، كلٌّ مع الآخر، دون محاولة تغييره والتقليل منه، وحرمانه ما له من حقوق، والمزايدة فيما عليه من واجبات، لمجرد الاختلاف العرقى أو الدينى. وهذا التميز يحمل فى طياته قدرة على توطيد أواصر المجتمع وبنائه؛ ليصبح مجتمعًا تسوده قيم العدل والمساواة، وتتناغم حياة أبنائه معًا فى تعاون وعيش مشترك، تجمعهم محبة الوطن الواحد.
«مِصر» والتنوع والتعددية
عرفت «مِصر» التعددية؛ فطوال تاريخها الطويل قامت حضارات عديدة على أرضها، وعُرفت عن الإنسان المِصرى شخصيته المتفردة التى قبِلت التنوع والتعدد، وفى الوقت نفسه احتفظت بتفردها وتميزها. فعلى أرض «مِصر»، تجد ملامح حضارتها الفِرعَونية، وحضارات كالإغريقية والرومانية والقبطية والإسلامية، فاستقبلت أرضها واحتضنت كل وافد من جميع بقاع العالم، سواء أكان طلبًا لأمنها، أو رغبةً فى علومها، أو حبًّا للحياة فى رُبوعها؛ وهكذا استوعبت أرض الكنانة الجميع فى اتساق وتناغم لم يعرِفه أىُّ بلدٍ آخر فى العالم.
دعونا ننظر فى المجتمعات التى رفض أهلها فَهم فكر التنوع وأبَوا قبوله؛ لنجد أنها صارت مركزًا للتناحر والتصارع، ومنها ما اندثر على مر الزمن!!.
كل عام وجميعنا بخير وسلام، مصلين إلى الله أن يعمّ السلام «مِصر» والعالم بأسره.
و... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم