د. محمد أبو السعود الخيارى 

 هل كان بإمكان أحمد مراد أن يقول رأيه الجرىء والمثير للجدل عن روايات نجيب محفوظ الذى قاله قبل نحو عام، فى معرض الشارقة للكتاب رقم 38، إذا كان نجيب محفوظ على قيد الحياة؟.

هذا سؤال صعب يمكن لأحمد مراد وحده الإجابة عنه، لكن السؤال السهل هو ما رد الفعل المتوقع حينذاك من نجيب محفوظ؟.

والإجابة هذه المرة سهلة للغاية ولا تحتاج أبدا لمراجعة نجيب محفوظ. نعم رأى نجيب محفوظ كبير الاحتمال هو الصمت والابتسامة المعتدلة؛ حتى وإن قال روائى شاب (طرى العظام): يجب للكاتب أن يراعى فى كتابته للرواية التطور العصرى حتى يتناسب مع التقدم من حيث سرعة الأحداث، فهناك روايات للكاتب العالمى نجيب محفوظ بها إيقاع بطىء، وهذا لا يتناسب مع الإيقاع الحديث الآن.. يعيش الروائى حياتين: الأولى حياة واقعية جادة بوصفه إنسانا من لحم ودم؛ يحقق فيها النجاحات الملموسة، ويواجه فيها أيضا الخيبات المحتملة؛ بوصفها حياته الأساسية والحقيقية.

والأخرى هى حياته بوصفه مبدعا؛ يمارس فعل الإبداع فى جزء من حياته، وتبدو حياته الأخرى جزءا يسيرا من الأولى؛ ولا بأس من التضحية ببعض أو كل الحياة الأخرى من أجل الأولى.

 
النظرية هذه تنعكس وينقلب حالها تماما فى حالة نجيب محفوظ؛ فقد عاش حياته الأساسية كاتبا، فيما ظهرت بقية مظاهر معيشته على هامش هذه الحياة. تبدو الصرامة والجدية القصوى غير متحققة فى حياة نجيب محفوظ إلا فى حياته ككاتب وروائى؛ فقد بدا متسامحا، متجاوزا، بل صامتا أمام الأحداث والحوادث تجرى أمامه وهو يقابلها بالتأمل وهو بين عموم الناس، لم يهتز نجيب محفوظ لأحداث وطنية سواء وقعت فى خانة الإنجازات أو جاءت بين الكوارث؛ ولا تفلح الذاكرة الجمعية فى التقاط تصريح أو موقف عام له تعليقا أو إشادة أو انتقاد. بدا نجيب محفوظ بهاتين الشخصيتين؛ الإنسان سمته الأصيلة الصمت، والروائى وهو غزير الكلام، واضح الرأى والرؤية. ويوشك الأمر فى وضوحه وحدته ومفارقته إلى الدرجة التى يمكننا معها قراءة آراء نجيب محفوظ وموقفه من الحياة ومكوناتها من أدبه لا من سيرته الذاتية.
 
السيرة الذاتية لنجيب محفوظ ضعيفة هزيلة؛ لا تكاد تقف فيها على شىء ذى أثر أو قيمة؛ فقد حرص طوال الوقت على أن تكون نمطية مكررة صارمة حد الملل؛ ليس فيها قفزات أو قرارات أو مواقف، ولعل السمة المهمة فى شخصية نجيب محفوظ الإنسان كانت صفة التسامح والتجاوز وعدم الرد؛ وهل يذكر أحد رد فعله بعد ثورة يوسف إدريس وتقليله من فوزه بجائزة نوبل، بل تصريحه بأنها كانت فى طريقها إليه وأن ما حدث هو خيانة!. كل ذلك من (ابن كاره) وبلدياته، قابله نجيب محفوظ بالصمت.
 
استسلام شهدته حياة الموظف الميرى نجيب محفوظ من وزارة الأوقاف إلى وزارة العدل إلى هيئة السينما (لاحظ التناقضات)، لا بأس فهى حياة ليس هى الحياة بل على هامش الحياة؛ سارت بما يشبه عربات القطار التى تسير مرغمة، آخذ بعضها برقاب بعض نحو محطة معلمة سلفا فوق طريق وحيد؛ لا تجرؤ على الحياد عنه شعرة وإلا حدثت الكارثة. وعلى نحو مفزع سارت حياة الروائى والقاص نجيب محفوظ متمردة خالقة متجددة من ثلاثينيات القرن العشرين حتى مرحلة فقدان السمع والاستعانة بالأصدقاء ليملى عليهم الإبداع فيكتبوه فى مراحل (أحلام فترة النقاهة) و(أصداء السيرة الذاتية) من قبلها.
 
فمن أول المشوار بالروايات التاريخية الفرعونية؛ إلى تأسيس رواية الواقعية العربية كالثلاثية؛ قبل تجاوزها إلى تجربته فى الرواية البولوفونية متعددة الأصوات فى «ميرامار» وغيرها، والرواية الجديدة كما فى «السراب»، والحوار مع التراث السردى العربى كما فعل فى «ليالى ألف ليلة»، والرمزية فى «الحرافيش»، والواقع مختلطا بالفانتازيا كما فى «ثرثرة فوق النيل»، وصولاً لتجاربه الأخيرة التى وصلت لمرحلة التجريد.
 
والأمر واضح أيضا فى مشواره الطويل جدا مع القصة القصيرة التى أنتج فيها ثلاثا وعشرين مجموعة قصصية (أكثر من مجموعات يوسف إدريس بحوالى عشر مجموعات)؛ فقد فعل بالقصة كل شىء؛ بيد أنها بقيت قصصا لكاتب هو مؤسس للرواية العربية الحديثة؛ كم هى بائسة تلك المجموعات التى تكفى عشرة كتاب!.
 
وكما كان سؤال رد فعل محفوظ المحتمل على انتقاد أو ملاحظة أحمد مراد سهلا وبدهيا؛ فإن كل الأسئلة الصعبة عند المصريين جميعا هى سهلة عند رجل قرر منذ البداية أن تكون حياته الأساسية تلك التى يشاركه فيها مخلوقان (القلم والورقة)، فى حين بدت الأرض بمن عليها بعد ذلك حياة افتراضية بالنسبة له؛ قاوم ليأخذ الناس فيها على هواهم حتى تكون خسائره معهم فى حدها الأدنى؛ وحتى تأخذ الحياة بأحيائها منه أقل قدر من الوقت والتفكير؛ ليتمكن من الفرار إلى حياته الأساسية.
 
ولك أن تسأل بحرية عن موقفه من ثورة يوليو ومراكز القوى ونكسة يونيو أو نصر أكتوبر، أو عن معاهدة السلام أو اغتيال السادات أو حرب الخليج، وغير ذلك كله.. لن تجد سوى صوت خافت يجهد ليبدو متوازنا تسمعه بالكاد وأنت بجواره؛ غير أنك ستندهش من تلك الآراء التى حملتها الثلاثية وثرثرة فوق النيل والكرنك ويوم قتل الزعيم... وغيرها.
 
ويمكن القول إن هذا الإخلاص والتفرغ للفن الروائى والقصصى وإيثاره بحياة أهم وأجل من حياة الناس، أنتج لنا معادلا نثريا للمتنبى؛ فلا نكاد نجد فى تراثنا القصصى العربى تلك القامة التى تناظر المتنبى شعرا عبر مئات السنين حتى نصل لتلك التجربة العظيمة لرجل فضل الصمت فى دنيا الناس ليملأ الحياة كلاما فى دنياه.
 نقلا عن المصرى اليوم