عادل نعمان
إياك أن تظن أن الفريقين المختلفين حول القرآن- «مخلوق » أو «غير مخلوق»- مختلفان فى مصدره، بتاتا، فهو كتاب الله، وكلمته عند الفريقين، الفارق بينهما هو، ما بين محدث وقديم أول، مخلوق «نزل» لحدث معين بذاته، أو خلقت له الأحداث، زمانى لوقت محدد «ونسخ لزوال السبب»، أو أزلى أبدى، حديث فى وقت النزول أو قديم قدم الله، كلام الله المخلوق أو قديم قبل الزمان وبعده، بينما الله تعالى كان قبل الكلام، أو دائم الكلام أزلا وأبدا. «وضحت؟». هذه مقدمة لا بد منها واعذرونا فنحن نتحسس ونتلمس مخافة أن تطولنا نيران الغضب.

ولأن الجدال يوما كان حرا دون خوف من تكفير أو تفسيق غير ما نحن فيه، فقد واجههم المفكرون يومها بشجاعة، وسألوا ما لم يستطع مشايخنا معه صبرا لو تساءلنا نفس الأسئلة الآن، حين واجهوا الخصوم عن المرويات التى ذكرت عن إغفال وسقوط بعض آيات القرآن من التدوين، وهذا يتفق «مع خلق القرآن»، وينفى عنه صفة القدم، وهذا ما قالته السيدة عائشة عن سورة الأحزاب «كنا نقرؤها فى عهد النبى (ص) مائتى آية، فلما كتب عثمان المصحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن». وربما كان أحد أسباب الخلاف بينهما. وكذلك ما قالته السيدة عائشة عن آية الرجم «والشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم». وفى رواية أخرى «فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة»،وهى آية قالوا عنها «أكلتها الداجنة»، أى الماعز، تحت سرير السيدة عائشة حين أنشغلوا بوفاة النبى (ص)، ولم تدون فى قرآن عثمان، وأكدها عمر بن الخطاب حين قال «لولا أن يقول الناس زاد عمر فى كتاب الله لكتبتها». وكذلك ما قالته السيدة عائشة عن نسخ آية التحريم بعشر رضعات بآية أخرى بخمس، وقالت «كان مما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات» رواه مسلم. وليس فى القرآن نص بتحديد الرضعات المنسوخة المحرمة بعشر، أو الناسخة بخمس. وما جاء فى كتاب الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى «قال الحسين بن المنارى: ومما رفع رسمه ولم يرفع من القلوب حفظه، سورتا القنوت فى الوتر وتسمى سورتى الخلع والحفد». وكما جاء عن بن مسعود أنه كان يمحو المعوذتين من مصحفه ويقول: ليستا من القرآن، وقالوا: لم يتبعه فى هذا أحد من الصحابة. ومعروف أن عثمان استبعد عبد الله بن مسعود من كتابة القرآن، وقد قال فيه أحد الصحابة «والله ما ترك النبى أحدا أعلم بكتاب الله من عبد الله بن مسعود»، وهناك غير هذا.

ولأن الناسخ والمنسوخ، وكذلك أسباب النزول دليل على زمانية الحكم، وأن إلغاء حكم سابق بحكم لاحق وخصوصا فى المعاملات دليل على تجاوز الحكم لزمنه واستتفاد غايته، أو استهلاك المراد منه، وهى حركة تاريخية حتمية تفرضها طبيعة الحياة واستمرارها ودوامها، وكذلك العودة إلى سبب النزول لمعرفة الحكمة والغرض من التشريع، وهو أساس التفسير والاستدلال على الحكم الصحيح «خصوصية السبب»؛ «بالضبط كالمذكرة الإيضاحية للقانون، والتى يلجأ إليها القاضى قبل الحكم ليعرف قصد المشرع». وهكذا قال ابن عباس «إنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدركون فيم نزل، أو يعرضون عن سبب التنزيل، فيكون لكل منهم فيه رأى، ويختلفون فى الآراء، ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه». وصدق الله حين قال «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ». أما أنصار «غير مخلوق» وهم أنصار «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» فقد أجازوا لأنفسهم استعمال الآيات على عموم ألفاظها، وتبعا لتكوين الكلمة وصياغتها، دون الرجوع إلى معناها ومقصدها، بالضبط كالآية «إنِ الحكمُ إلا لله» أو «أفحكم الجاهلية يبغون»، فليس القصد هو حكم الدولة كما نزلت الآية.

ولهذا فقد تنبه الفقهاء إلى ما قصده أصحاب فكرة «وقتية وزمانية الحكم» من تلقاء أنفسهم، ولم يكن مقصودا حين حاولوا التخفيف على من ارتكب ذنبا أو جرما من العباد واستدعى إقامة الحد عليه، ولو كانوا قد التزموا بحرفية النص، لقطعوا ورجموا وصلبوا من المسلمين ألوفا مؤلفة، مما أثقل على الناس، وشق عليهم، وتركوه وارتدوا إلى ما كانوا فيه من تحرر ومسامحة، فاجتهدوا على قدر ما أتيح لهم من العلم، واستجابوا لقدرة الناس على الصبر والجلد، وعلى ما ضاقت واتسعت عليه الصدور.. كيف؟. تعال معى، ماذا عن الشروط الشرعية التى وضعها الفقهاء لإثبات واقعتى الزنا والسرقة والحرابة من الناحية الشرعية؟، بمعنى أدق ما هى الشروط الواجب توافرها عند ارتكاب الجرم لإثبات وقوعه شرعا لإقامة الحد؟، ولم يكن لها نص أو تنظيم فى القرآن، اللهم حديث على مجمله «ادرأوا الحدود بالشبهات». وجال فيه الفقهاء ووسعوا على الناس قدر ما اتسعت مساحة العفو، وضيقوا فى التطبيق قدر ما استطاعوا الهروب منه، ألم يكن هذا تباعدا بين المذنب وتنفيذ الحد وفتح الباب للخروج والهروب؟. أو ليس هذا التفافا على الحكم والمباعدة المقصودة بين الحد وبين الجانى؟. أو ليس عدم تدوين آية الرجم كما قال السيوطى «ندب الستر، وعدم تنفير الناس من الإقبال على الإسلام»؟، أو قلها صراحة ألم تكن هذه الشروط تسريبا وتهريبا للجانى وإفلاته من يد العدالة، كالأم التى تدفع ابنها خارج البيت من سياط الأب وكلاهما يحبه؟.

نكمل الأسبوع القادم.
نقلا عن المصرى اليوم