فرانسوا باسيلى
مطلع أغنية جديدة لعمرو دياب..سمعتها واستغربت أن كلماتها هي ردة رجعية إلي الخلف، إلي ما قبل ثورة الخمسينات والستينات الثقافية الموسيقية الغنائية الفنية المذهلة، فكلمات الحسد ومحسود و "عودك" و "ياجميل" هي كلمات الأربعينات في مصر، كلمات تجدها في أغاني كارم محمود وعبد العزيز محمود وعبد الغني السيد، مع محبتي وتقديري لهم جميعاً فقد كانوا مبدعين حقيقيين يعبرون عن زمنهم وما زالت أغانيهم تشجينا اليوم، لكن كلمات الأغاني تعبر عن ذائقة ولغة وأفكار سائدة هي بنت زمنها،
وتلاحظ أن عبد الحليم لم يكن مجرد أنه شاب طازج وسيم رقيق يقدم أغاني شبابية لكنه مع المؤلفين والملحنين الذين عمل معهم أحدث ثورة فعلية في الأغنية العاطفية والوطنية، فلا تكاد تجد في أغانيه كلمات الحسود والعوازل ولا عبارات يا واد يا جميل يابو الخلاخيل، فهذه اختفت مع ثقافة الحارة الشعبية المصرية التي كانت هي منبع الأغاني الرائجة في مصر في الأربعينات وحتي مطلع الخمسينات، بجوار أغاني النخبة لعبد الوهاب وأم كلثوم بالطبع،
ومع مجيء عبد الحليم في الخمسينات ومعه مجموعة المبدعين الشباب التي كانت تضع له الكلمات والألحان، راحت الأغاني تعبر عن الطبقة الوسطي الصاعدة في مصر وعن الفورة الإجتماعية التي واكبت التغير السياسي الهائل الحادث في مصر، وابتعدت الأغاني عن عبارات الحارة والاسطوات وبنات البلد ولابسة الملاية - رغم صدقها في تعبيرها عن واقعها - واستبدلتها بعبارات ومشاعر وأحلام شباب متعلم مختلف متوثب صاعد في أحياء القاهرة التي كانت مطبخاً هائلاً لكل جديد ومثير مع من نزح إليها من مبدعين من كل أنحاء مصر ليقدموا كلمات برؤية عصرية طازجة مليئة بالقوة والرفعة والتطلع والحلم المتعطش للحب والحرية الإنسانية والإجتماعية، فالعوازل والحساد هي أفكار مجتمع الحريم القديم حيث كانت المرأة لا تعمل ولا تتعلم إلا من رحم ربك منهن.
لذلك دهشت أن أسمع عمرو دياب يغني محسود علي عودك يا جميل، وكأني أسمع عبد العزيز محمود قبل سبعين عاماً..
ومع هذا فأغاني عمرو دياب أفضل من معظم ما يلوث الفضاء السمعي في مصر اليوم من صخب ضوضائي بلا لحن ومن كلمات بذيئة بلا معني.
أغانينا بلا شك ترجع للوراء.. وقد حذرنا مؤسس علم الإجتماع العبقري إبن خلدون حين قال..
إن أول مظاهر إنحدار أمة هو إنحدار أغانيها.