هاتفتنى جارتى تطلبنى لأمر عاجل، وأن نتزاور فى حدود أوامر كورونا بالتباعد والكمامة والكحول. ذهبت إليها، فأخذت تهمس لى بعيدا عن بناتها الثلاث وأعطتنى ظرفا مغلقا به عدة كتب وأنا أغادر منزلها.
كانت الكتب لمناهج التربية الدينية واللغة العربية للابتدائية وكذلك الثانوية، وبعضها مستعملا وقديما، فعرفت أن جارة أخرى أعطتها كتب ابنها بعد أن كتب الكثيرون على «جروبات» أولياء الأمور والأصدقاء يطلبون متبرعين بالكتب الدراسية الرسمية للثانوية لأنها المسموح بها لدخول امتحانات آخر العام بعدما تأجلت امتحانات نصف العام الحالى بقرار من مجلس الوزراء الأيام الماضية، وربما تتم امتحانات نصف العام للثانوية منزليا مثلما حدث العام الماضى.
أكدت الجارة أن أولياء الأمور فى «جروبات» الأمهات تنتابهم الحيرة خاصة أن الوزارة لم تطبع هذا العام الكتب المقررة لطلاب الثانوية بعد أن وضعتها على التابلت أو بنظام pdf، وأصبح على الطالب أن يطبعها ورقيا بنفسه وعلى حسابه!. وهى تخشى من منع ابنتها من دخول الامتحان بنظام «الأوبن بوك» إذا استعانت بنسخة طبق الأصل من النسخة الـpdf، فلا تعليمات صدرت للمدارس بذلك حتى للثانوية العامة.
عدت للكتب الدراسية القديمة وتأملت ملاحظات الطالب والخطوط التى وضعها على أهم الفقرات فى كتاب التربية الدينية للصف الأول الثانوى، وهو أقرب للكتيب منه للكتاب، فعدد صفحاته قليل فى حدود ٥٠ صفحة تتضمن الأسئلة والتدريبات... الكتاب فى مجمله معلومات عامة ورءوس عناوين ليس أكثر! ولكن عند صفحة ٢٤ من الكتاب توقفت عند خطوط الطالب فقد كانت عند درس خير مثال للإنسان فى الإسلام هو الإنسان العامل فى إعمار الأرض والبناء، وهذا بالفعل أمر هام وجيد أن يذكره الكتاب لأنه قيمة إنسانية عظيمة يجمع عليها العالم كله الآن، وخير دليل لإعمار الأرض هو ما حدث أخيرا من وصول الإنسان، من أصحاب الديانات الأخرى، للقاح ضد وباء كورونا العالمى وإتاحته للإنسانية كلها وليس أصحاب دين معين أو عرق محدد. وخرجت من فرحتى بالعنوان «إعمار الكون» لأجد الكتاب المدرسى بعد أن استشهد فى نفس الفقرة بالآية ٦١من سورة هود بالقرآن الكريم، يذكر جملة لفتت نظرى واستوقفتنى... فيقول فى نفس الصفحة، صفحة ٢٤ من الكتاب، أن الإسلام جاء بتصور مغاير عن الأديان الأخرى لصورة الإنسان ودوره فى إعمار الأرض، وأن الإسلام يرفض حياة الرهبنة حيث لا رهبانية فى الإسلام.
تركت الكتاب المدرسى وعدت لتفسير القرطبى لسورة هود التى استعان بها الكتاب وكذلك لتفسير وشرح جملة «رفض الإسلام للرهبنة وأنه لا رهبنة فى الإسلام»، وما المقصود تحديدا بها فى الدرس رغم صحتها؟
لم أجد شرحا وافيا لذلك وسألت نفسى، ماذا لو جاء سؤال الامتحان عن نظام الرهبنة عند المسيحيين مثلا؟ أو سؤال عن أهل الديانات الأخرى، ممن لديهم نظام الرهبنة، المخترعين للقاح والكمبيوتر والإنترنت والدواء.. وغيرهم. فهل عملهم يعتبر إعمارا فى الأرض رغم وجود نظام الرهبنة لديهم؟
فالراهب والناسك أو الصوفى موجودون كبشر فى كل الأديان، ولكنهم قلة قليلة جدا من أتباع أى دين، وغالبية أتباع هذه الأديان هم الذين سعوا فى الإعمار الإنسانى وينقذون البشرية الآن... فلماذا يضع الكتاب هذه الجملة ويمررها للطلاب فى مراحل التكوين العقلى ووضع التصورات نحو الآخر والعالم؟ ولماذا يتم ذلك بدون شرحٍ وافٍ وتوضيح مكتوب أو تفسير، أم المطلوب هو أن يترك الطالب لمصادر أخرى؟!
لم يكن كتاب التربية الدينية الجديد المطور للصف الثانى الابتدائى أفضل حالا فى وضع شكل وتنميط للمرأة. فهى دائما بغطاء الرأس أو الحجاب حتى داخل بيتها، كما تعكسه صور المقرر الدراسى، بل وفى حجرة المعيشة مع أولادها، وكذلك الجدة أيضا تغطى شعرها. وذلك عكس صور المرأة فى كتب اللغة العربية واللغات الأجنبية لنفس السنة الدراسية وكأن جهتين مختلفتين وضعتا منهجا لسنة دراسية واحدة لأطفال صغار.
يضاف إلى ذلك أن التركيز على تنميط المرأة فى كتاب الدين بغطاء الرأس يعطى رسالة ضمنية ومستترة للمدرسين ونظار المدارس الآن بأن غطاء الرأس أو الحجاب هو السلوك والشكل الإجبارى للمرأة المسلمة، مما يعنى أنه من الطبيعى أن تعاقب وتزدرى الطالبات اللائى لا ترتدين غطاء الرأس بالمدرسة كما تكرر أخيرا على طالبات لا ترتدين الإيشارب. وحتى لو لم يتضمنه قرار وزارى، فالأهم فى التعليم والتكوين هو ما تتضمنه المناهج الدراسية وتلح عليه منذ المراحل المبكرة جدا فى حياة الأطفال، ممن لم يتجاوزا الثمانى سنوات، فالتعليم فى الصغر كالنقش على الحجر.
***
تركت كتب الدين واتجهت لكتاب اللغة العربية للصف الأول الثانوى. بحثت عن الدرس الرابع كما كشفه البرنامج التليفزيونى وكان عنوانه (قيم الحياة الزوجية) المقرر لطلاب وطالبات يقترب أعدادهم فى الصف الأول الثانوى العام والفنى والأزهرى والأجنبى من ٢ مليون طالب. ويشتمل الدرس المقرر قطعة نثرية من التراث القديم جدا توصى فيها «أمامة بنت الحارث» ابنتها «أم إياس بنت عوف» التى خطبها عمرو أمير كندة، فتقول الأم لابنتها «كونى أمَة لزوجك يكن لك عبدا وشيكا». عدت لشرح المعنى فوجدته يقول (كونى له أمَة) تشبيه الزوجة بالأمة وسر جماله التوضيح!
لم يوضح الكتاب هل الكلمة هى أمَة أم أمه أى والدته؟! ولكن يُفهم من النص المقرر أن المقصود هو اللفظ الأول ــ أى أمَة ــ لأن الكلمة الملحقة بها «يكن لك عبدا». ولن أتعرض لوصاية أمامة لابنتها عن ضرورة الابتسام الدائم وعدم الغضب أبدا فى وجه زوجها، أو دورها فى إعداد الطعام فى الوقت المحدد، وغيره من الوصايا.
اتجهت إلى جهاز الكمبيوتر لأضع تصورا للأسئلة المتوقعة على هذا الدرس، كما طلبت منى زميلتى، بل ووضع الإجابات الصحيحة المتوقعة أيضا لأنه، وطبقا للتعليمات الوزارية، فالامتحان تكنولوجى على الكمبيوتر ولن يتضمن كتابة أو شرح أو رأى وإنما باختيار الإجابة الموضوعة مسبقا على التابلت من قبل بشر مثلى. فوضعت السؤال الأول ونصه ما هى مواصفات الأمَة (غير الأُمة بضم الألف وتعنى الشعب) فهل هى بيضاء، أم سمراء، أم قمحية، أم..؟ والسؤال الثانى ما هى مواصفات العبد؟ هل هو مفتول العضلات، أكرت الشعر، أم أسمر اللون، أم كل هذه الصفات مجتمعة؟ بل وتوقعت سؤالا آخر عن واجبات الزوجة الصالحة من النص الدراسى؛ هل هى التعهد لموقع عينيه أم التفقد لموقع أنفه؟ أم تحضير الطعام أم الهدوء عند منامه أم كل
الصفات مجتمعة؟
أغلقت التابلت قليلا وأعدت فتحه! بحثت عن فيديو توضيحى شارح للدرس بينما يدور برأسى التساؤل عن كيف ستوضح وزارة التربية والتعليم، طبقا لخطتها للتطوير التكنولوجى واستخدام الفيديوهات، هذا الدرس؟ هل ستضع بالفيديو صورا إيضاحية كما رسمت فى كتب التاريخ القديم لأسواق العبيد والنخاسة التى كانت تعرض به الإماء عارية تماما ليفحصها المشترى وكذلك للعبيد والجوارى أيضا.. فهكذا كانت الحياة فى الماضى عندما كان العبيد يباعون سلعا فى الأسواق (مثل السوبر ماركت الآن)، وهل سيذكر الفيديو لأجيالنا الجديدة، بما فيهم أسرهم وأجدادهم، التى لم تعاصر بيع العبيد والإماء؟ ألغيت هذه التجارة وأسواقها قبل أكثر من قرنين، لذلك يصعب على الأجيال الجديدة، وخاصة الشباب، تخيل مشهد وجود سوبر ماركت لبيع البشر، وبعضهم قد لا يصدق أصلا حتى لو كان حقيقة تاريخية... فماذا لو رفضت طالبة أو طالب الإجابة عن أسئلة الدرس بأكمله وكتبت طالبة لوزير التعليم مقالا ورسالة تطالبه بحذف الدرس واحترام العصر واستخدام صورة أكثر إنسانية للمرأة والرجل وهما أساس الأسرة حاليا ومستقبلا، فهل سيتم فصل الطالبة كما حدث قبل سنوات عندما عبرت طالبة عن رأيها فى المناهج وكتبت ذلك فى موضوع تعبير؟!
الأهم من ذلك هو لماذا ندرس تعليمات أمامة بنت الحارث وقيم العلاقات الزوجية لطلاب فى عمر ١٦ عاما، أى مازالوا أطفالا بتعريف القانون المصرى، ولا يسمح لهم بالزواج وتكوين أسرة، أم المقصود الإعداد لمرحلة التسرب من التعليم والاكتفاء بالدبلوم أو الثانوية.
فما نحتاجه بعد الاطلاع على هذه المناهج، سواء قديمة أو جديدة، هو وضع سياسات ثقافية وفكرية جديدة للمناهج لأنها أساس التعليم وجوهره، وأن تساهم وزارة الثقافة ويشترك المجلس الأعلى للثقافة والمفكرين فى مناقشة هذه السياسات الجديدة والمناهج، مثلما تعاونت وزارة الأوقاف مع التعليم فى إنتاج كتاب الشخصية المصرية وقبول الآخر. وكذلك ضرورة أن تخرج مفوضية التعليم للنور، كما ينص الدستور، ويُسند لها وضع ودراسة مناهج التفكير والهوية والتاريخ، مما لا يقل أهمية عن المحاولات الجادة لإدخال التكنولوجيا فى التعليم.
ما نحتاجه فى التعليم هو مشروع مستقبلى لرصف العقول بالعلم والمنطق والتفكير الحر والنقاش القائم على أمثلة من الواقع الحقيقى وليس الماضى، ومناهج إنسانية تساعد على التطور والإبداع وتدعو إلى المساواة واحترام الآخر واحترام المرأة وليس قولبتها فى أنماط وصور محددة. فأثبت العلم أن هذه القولبة هى السبب فى أمراضنا الاجتماعية الحالية من تحرش وتنمر وغيرهما من أمراض التسلط. وكما نستورد التابلت وبتكلفة ٩ مليارات جنيه كما ذكر وزير التعليم على صفحته بـ«الفيس بوك» ونطور فى العشرات من المنصات الإلكترونية ونماذج الامتحان وهو جهد محترم مبذول، فلماذا لا نخصص عدة ملايين قليلة من الجنيهات إلى المضمون ونستورد أو نطور المناهج الإنسانية الحالية التى يدرسها ويمتحن فيها الطلبة سواء الكترونيا أو حتى من غير القلم نفسه كما يتم الإعلان يوميا من الوزارة
نقلا عن الشروق